- الشركة اليمنية للغاز تؤكد تغطية احتياجات السوق المحلية وتدعو لمراقبة الطرق والشواطئ

صلاح الأصبحي
مجد القردعي كان في فبراير!
كتابنا| 15 فبراير, 2025 - 6:11 م
تاريخ اليمن النضالي المعاصر ضد الكهنوت الإمامي حلقة متصلة لا يمكن تجزئته، وقد أرسى مداميكه وأطلق أول رصاصة فيه الشهيد علي ناصر القردعي، ابن قبيلة مراد، الرصاصة التي مهدت الدرب النضالي وشقت طريقاً للثوار اليمنيين للشروع في انتزاع حريتهم من قبضة الإمامة المستبدة، وكسرت حاجز الخوف لديهم، وأعادت لهم الثقة في استشعار مسؤوليتهم التاريخية إزاء وطنهم المستلب وكرامتهم المنتهكة، كانت البطولة الفريدة من نصيب القردعي الذي عزم دون تردد، وأقدم دون خوف على اغتيال رأس الإمام يحيى حميد الدين في السابع عشر من شهر فبراير 1948م، ليفتح شهية التحرر، ويدفع بالوضع القائم آنذاك لإنجاز حدث مهم، عُرف بالثورة الدستورية في نفس الشهر .
مقارنة بالظروف القاسية التي كان يعيشها اليمن حينها، وكمية الظلم المسلط عليه من قِبل الإمام، وإخضاع أبنائه بالحديد والنار، لم يكن ما قام به القردعي حدثاً عابراً، أو فعلاً اعتيادياً يمكن توقعه، بل مجداً وطنياً وفخراً بطولياً ينم عن شخصية استثنائية بشجاعتها وإخلاصها وتضحياتها، شخصية بطولية سئمت الإذلال وضاقت ذرعاً بالقهر، علماً بأنها تدرك عواقب فعلها، وتبعاته على ذاتها وقبيلتها، حيث التاريخ الإمامي الملطخ بالدم والبطش والتشريد والتنكيل الذي كان يسلكه الطاغية مع القبائل، ويخضعها بالترهيب والترغيب، والإغراء والفتك، والولاء بأخذ الرهائن والانصياع لسلطته.
وعليه فإن علاقة القردعي بالإمام أخذت عدة منعطفات بين ولاء الترغيب وولاء الترهيب والتمرد والاعتقال، للدرجة التي استشعر فيها الإمام خطره، وطمح في التخلص منه، عن طريق دفعه للإغارة على محميات الإنجليز في شبوة التي كانت مكونة من بعض أبناء القبائل، وحين تمكن القردعي من إسقاط تلك المحميات، وفشلت خطة الإمام، يأتيه الأمر بالانسحاب مكتشفاً الفخ الذي نصب له؛ بينما كان يتوهم أن الطاغية عزم على تحرير الأرض من المستعمر، وقال بيته الشهير:
قدهم على شور من صنعاء إلى لندن
متخابره كلهم سيد ونصراني
حيث كان القردعي صاحب تجربة في الإغارة على المحميات، كبيحان وتحريرها من الإنجليز، وكانت سبباً في سجنه لأربع سنوات في صنعاء، كون تمرده ذاك أحرج الإمام، وفضحت علاقته بالمستعمر .
كان القردعي يسير وفق خطة مرسومة من قبل الثوار للخلاص من حكم الإمامة، وكانت تلك مهمته التي انجزها بعناية، وإعلان ثورة دستورية في اليمن برئاسة الوزير، وليس هذا فحسب، فقد انسحب من حزيز إلى نقم مع رفاقه لحماية الثورة وصنعاء، وصمد أياماً حتى سقطت صنعاء وأباحها الإمام أحمد للقبائل لنهبها، وإرجاعها إلى قبضته، فانسحب القردعي إلى خولان وسقط شهيداً هناك، قيل بعد عشرة أيام من مقتل الطاغية.
يجمع المؤرخون على أن القردعي الممهد الأول للثورة الدستورية، التمهيد الذي راكم نضالات الأحرار ودفعهم لمتابعتها حتى ظفروا بلذة الانتصار الجمهوري في السادس والعشرين من سبتمبر، ومن هنا فإن إعادة الاعتبار لهذه الشخصية الوطنية يمثل جزءاً مهماً من نضالنا في اللحظة الراهنة التي عدنا فيها إلى بوتقة صراعنا التاريخي مع الإمامة، وكفاحنا المتسلسل في مقارعة أزلامهم المتجذرين في أرضنا وتاريخنا وهويتنا، وهم الآن يعبثون برموز مجدنا وانتصاراتنا عليهم، ويمحون سيرهم البطولية من الذاكرة اليمنية وأذهان الأجيال الناشئة، كتاريخ الشهيد القردعي.
لشخصية القردعي وسيرته كثير من السمات والأبعاد الخاصة به التي تجعل منه ملهماً ومؤثراً في الوجدان اليمني، فإلى جانب نضاله السياسي كان شاعراً بليغاً، رسم خطاباً وطنياً بأشعاره العامية وأراجيزه الشعبية التي ما زال لها صدى في الذاكرة الشفاهية اليمنية، وتتناقل من جيل إلى جيل سماعياً، كونها معبرة عن الشجاعة والحكمة والاستبسال، وتستنهض روح المقاومة وتجسد معاني الحرية والكرامة في الذات اليمنية، وليست أشعاره من تحظى بذلك الاهتمام الشعبي، بل حكاياته وقصصه التي تختزل بأسه وشكيمته، منها قصة مناطحته النمر، وقولته الشهيرة " لو أنت النمر أنا الأسد والفسل منا من هرب"، وأدت تلك الحادثة إلى جدع أنفه كما في صورته، بعد تمكنه من صرع النمر، وهذه الشجاعة جعلت اسمه يطلق على كل شجاع من الصبيان في السياق الشعبي اليمني.
ومن هنا فإن لفبراير ذكريات عظيمة وأمجاد متناسلة في التاريخ اليمني المعاصر كلحظات انتصارية فارقة متعلقة بالنضال والكفاح وتغيير الواقع، فمجد القردعي كان في فبراير 1948، ومجد انتصار ملحمة السبعين كان في فبراير1967، وثورة التغيير الشبابية في فبراير 2011، كلها نضالات ملهمة وجولات وطنية وأحداث مهمة في الفعل اليمني المقاوم للظلم والاستبداد، ومرتبطة بمعارك التضحية والإخلاص من أجل الوطن، الإخلاص الذي يحتاج إلى استحضار نماذج بطولية وإحياء ملامح بطولتها في لحظتنا الراهنة، باعتبارها دوافع حماسية وتعزيزات وطنية معنوية ونحن نخوض معركة وجودية فتاكة بمصيرنا واستلاب حريتنا.
فلا يمكن الظفر بنصر على عدونا ونحن نجهل تاريخ الأبطال المؤسسين، ويفتقر وعينا لاستلهام رموز السردية الوطنية المحفزة للاستبسال والاقتداء بها، والمضي على نهجها والتمثل بحقيقة نضالها، ورمزية الشهيد الشيخ على ناصر القردعي ينبغى أن ترسخ فينا قيم التضحية والبطولة، وترسم ملامحها في تشكيل الهوية الوطنية كانتماء حقيقي يربطنا بأرضنا وتاريخنا وتمجيد تلك البطولات بشغف واقتداء لكي تتغير خارطة علاقتنا ومفاهيم وطنيتنا المتبلدة، التي استسلمت للقطيعة والانفصام عن ذلك التاريخ المضيء، فكنا لقمة سهلة يبتلعها الكهنوت من جديد، ويعبث بوجودها ويعيدها إلى الماضي البغيض، لأننا أهملنا تاريخنا الذي يعد تجربة حقيقية في استشعار الخطر، ولم يكن لدينا مرجعيات وطنية ثابتة متصدية لأية تجريف وهزيمة.
مقالات ذات صلة