الأخبار
Image Description

صلاح الأصبحي

انتفاضة أخرى توأد في قيفة!

‫كتابنا‬| 18 يناير, 2025 - 5:28 م

 

 المقاومة فعل متجسد في بنية اليمن مجتمعاً وقبيلة، ونبذ الإمامة وأزلامها الجدد هاجس حاضر ومتقد في أعماق تفكير وسلوك وقيم كل يمني، إلا أن الفرصة لم تسنح لتحويل كل تلك الهواجس المستعرة ضد الحوثي إلى وقائع ملموسة وأفعال مشهودة؛ لأن الشروع في مقاومته في نطاق سيطرته وعمق امتداد سلطته يحتاج إلى كثير من المعطيات والأبعاد الضامنة لإحراز تفوق عليه، وتغيير خارطة الصراع معه، لكن كسر حاجز الخوف وعدم الاكتراث بسبل النجاة في حال المغامرة يعد استئساداً بطولياً وشجاعة فريدة وشكيمة فذة تحفظها كتب التاريخ وتتخذ كأفعال ملهمة ودافعة لتخطي قيود الخوف من الهزيمة والتنكيل والانتصار لشرف الموت بشجاعة وكرامة ولا الحياة بإذلال واستعباد .

على مدى عقد من الانقلاب الحوثي نشبت عدة انتفاضات صارخة، واستنفارات جسيمة ومعارك دامية داخلية قادتها بعض المناطق والقبائل في وجه المليشيات وكانت نهايتها مأساوية وانتقامية حد الإبادة؛ إلا أنها شواهد عظيمة وتسابيح عزة وبطولة وقفت في وجه الكهنوت بكل استبسال وصمود لولا خذلانها وتركها وحيدة للتنكيل، سواء من قبل قبائل الجوار أو من قبل الجيش الوطني على تخومها.

من انتفاضة عتمة في ذمار إلى انتفاضة حجور في حجة إلى انتفاضة الحيمة في تعز إلى انتفاضة قبائل آل عوض في البيضاء ومناطق خبزة في رداع وآخرها انتفاضة قيفة في البيضاء هذه الأثناء التي تعاني أبأس تنكيل وانتقام سلالي حوثي.

حفظت كتب التاريخ والسير كثيراً من الوقائع والأحداث الدامية بين القبائل اليمنية وبين الأئمة الذين كانوا ينكلون بكل من يخرج على سلطتهم، وما أشبه اليوم بالأمس فالسلالة ذاتها، والبطش من نسل الجبروت الإمامي البائد، ولذا ينظر الحوثي للانتفاضات والتمردات في مناطقه كتحد صارم لا يقبل التهاون وخطر محدق يجب وأده بوحشية واقتلاع جذوره وجعله عبرة للآخر، عبرة الدمار والخراب والتنكيل والإبادة، محيت حجور وعتمة والحيمة وتغيرت ملامحها إلى الأبد، وقيفة تحذو حذوها، بعد دفع المليشيات بتعزيزات مهولة لدك قرية صغيرة بمختلف الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، لأن فاجعة اتساع رقعة اشتعال نار الانتفاض والتمرد لمناطق أكثر وقبائل أوسع  ستصيبها بمقتل، وربما يتطاير ريحها في شعاب أخرى، فالسخط عارم والتذمر جارف والقمع لا يحتمل ولابد من يوم النفير والخلاص .

ليست مقاومة قيفة مجرد انتفاضة عابرة؛  وإنما هو فعل رفض متجذر منذ مئات السنين للإمامة التي غدا الحوثي رمزها في هذا الزمن، ويتبع سياسية الاجتثاث والإخماد التام وكسر هيبة القبائل التي كانت تتباهى بقوتها وشكيمتها وتماسكها ضد قوى الإذلال والاستعباد وفرض الهيمنة عليها، هيمنة التسلط باسم السلطة أو هيمنة التبعية ومخزون المقاتلين، حيث ينظر للقبائل بأنها مصنع إنتاج يستفيد منه من يتسلم زمام الأمور، وعليها الانصياع له رغماً عنها، مهما كان مستوى التناقض بين قيمها الثابتة واستراتيجية الحاكم الممنهجة معها، وهذا يعني اختلالاً في منظومة العلاقة بين القبيلة والسلطة.

وعليه فإن قيفة نالت عقاب الابن العاق والضال الذي تمرد على ولي نعمته، هكذا تبدو المسألة في نظر الحوثي، ويريد إنزال أقسى عقاب عليها ومحو وجودها من الخريطة، لتكون درساً مفيداً للقبائل الأخرى، التي أنتزع الحوثي منها فلذات أكبادها وورطها في معاركه حد الاستنزاف، ووجدت نفسها مجبرة على المضي معه في مشروعه التدميري لليمن بشكل عام وللقبيلة بشكل خاص، ولا مجال للتراجع أو الفكاك من بوتقته، علماً بأن القبيلة انتهكت قدسيات مبادئها وداست على أدبيات أخلاقها وعاداتها، حين لطخت يدها بالدم ولوثت سمعتها بالانزلاق خلف تطييف المجتمع وتفكيك نسيجه وانتهاك حرمته، واستباحة دمة دون منطق أو عرف، واتبعت نهج السلالة المحتقر للقبيلة والمزدري لقيمتها ورمزيتها المجتمعية.

وعليه فإن ما يجري في قيفة رداع يأخذنا إلى تساؤل مشروع في سياق المعركة الجمهورية الإمامية والصراع التاريخي بينهما، وتصدر الشرعية اليمنية مقاومة عودة الإمامة واستعادة الدولة من خلال معركة مستعصية طويلة الأمد قاربت عقداً بين مد وجزر وتشابكات داخلية وخارجية وارتهانات على تحالفات سياسية وعسكرية محلياً وإقليمياً ودولياً، لكن دون أن يحدث كل ذلك تغيراً ملموساً على الأرض، إلا أن الإخفاق الكبير في هذا السياق كيف أن الشرعية أهملت استراتيجية ميلاد انتصار معركتها مع الحوثيين وإمكانية انبثاقه من مناطق سيطرته، حيث لا يدين كل من هم تحت قبضته له بالولاء أو الاشتراك في جبهاته، سواء قبائل أو قيادات أو كشخصيات عسكرية أو مدنية، كان من الممكن أن تعمل الشرعية بشكل مضمر على استثمار خطة تفكيك منظومة التحصين الحوثية من خلال عقد الصلة والتواصل والتنسيق والدعم بينها وبين القبائل المتاخمة لمناطق التماس والحدود الفاصلة بين المناطق المحررة والمناطق الحوثية، وكيف يمكن اتخاذها بوابات لعبور القوات الشرعية والزحف على الحوثي منها كخطة بديلة، يمكن أن تؤتى ثمارها إذا تم الاهتمام بها وتجنب إهمالها، لكن هذا الأمر لا يخطر على بال الشرعية ولا تفكر بعقلية الباحث عن النصر وإنما تنتظر مجيئه إليها بقوالب جاهزة.

فخذلان قبائل بني حنيفة في صعدة حين انتفضت وكانت قوات محور مران التابع للشرعية على بعد مسافة منها، وانتفاضة حجور في حجة رغم أن قوات المنطقة العسكرية الثالثة كان بمقدورها فتح خط دفاع وإمداد إلى حجور وتغيير خارطة المواجهات واستثمار استئساد القبائل هناك، وكذلك انتفاضة الحيمة التي كان أحرى بمحور تعز فتح ثغرة من خط الستين والالتفاف على المليشيات وصولاً إلى الحيمة، وأخيراً قيفة التي كان يفترض أن تزحف قوات العمالقة من شبوة لإنقاذها.

ولذا فإن صور الإذلال ستتفشى في أعماق المجتمع هناك، وسيصبح الانصياع لعبث المليشيات منطقياً بالنسبة للقبائل، بعدما رأت أفعالها بقيفة من تشريد واختطاف وتفجير للمنازل ودك للقرى، وهنا تكمن الخطورة في فقدان الأمل بالتحرر من جبروت الكهنوت، وإماتة شعور المقاومة والرفض، ليستشري الإحساس بالعجز والخذلان، وإطالة أمد البقاء للعدو واستغلاله الولاء الإجباري للقبائل بدفع أبنائها لرفد الجبهات وتقوية شكوته في المواجهات.

لكن مع تزايد حجم تعقيدات معركتنا مع الحوثي ودخولها انزلاقات جديدة، يضعف قدرتنا على الانتصار سندرك حينها أننا أخفقنا في تجاهل فعل المقاومة المختمر في مناطق سيطرته، وتركنا ذلك الفعل يتضاءل رويداً رويدا حد التلاشي بعد تلقيه ضربات قاتلة ألغت وجوده سراً وعلانية، فماذا لو كان التحالف العربي عمل على اختراق جغرافيا الحوثي بتفكيكه من الداخل وتغيير خارطة المعركة معه لكان حقق انتصاراً أفضل من تنصعه من الأعلى دون إصابته على الأرض .

وللعلم فإن طبيعة الحرب مع الحوثي توجب التفكير باستراتيجيات أخرى، غير نمطها القائم والتحصن كل في تبة، ومن بين تلك الخيارات أن نستعيد ثقة القبائل بذاتها وأن نشحذ هممها الوطنية وأن نستغل سخطها، ونعقد الصلة معها للانتفاض من قلب مناطق السلالية والتحامها بقوات الشرعية في أكثر من منعطف، أما تركها تواجه مصيرها البائس فذلك تفويت لدرع متين من دروع المعركة، ولنا في شجاعة قيفة وبأسها أسوة وهي تتحدى جبروت الحوثي وتضحي بغاليها والنفيس ثمناً لشموخها وكبريائها ودفاعها عن كرامتها، المجد لأبطالها ونخوتها.

مقالات ذات صلة

[ الكتابات والآراء تعبر عن رأي أصحابها ولا تمثل في أي حال من الأحوال عن رأي إدارة يمن شباب نت ]
جميع الحقوق محفوظة يمن شباب 2024