- الأونروا: أطفال غزة يتجمدون حتى الموت بسبب البرد ونقص المأوى إب..مليشيا الحوثي تشرع في جمع بيانات المواطنين بالتزامن مع حملات تجنيد إجبارية اندلاع اشتباكات ليلية بين قوات الجيش ومليشيا الحوثي شمالي تعز اليمن..الأمم المتحدة توقف الرحلات الجوية الإنسانية في مطار صنعاء مسؤولان لبنانيان: رفعت الأسد عم رئيس النظام السوري المخلوع سافر من بيروت إلى دبي سوريا: العمليات العسكرية تعتقل شخصيات بارزة من النظام المخلوع خلال حملتها الأمنية التكتل الوطني يدين العدوان الصهيوني على البنية التحتية والسيادة اليمنية
صلاح الأصبحي
السلطة اللامرئية للمجتمع!
كتابنا| 27 ديسمبر, 2024 - 5:54 م
في المجتمعات غير المتمدنة كثير من السلطات القمعية والرقابية- سواء كانت سياسية أو دينية أو ثقافية- لكن أن يبني المجتمع سلطة رقابية لا مرئية على ذاته، سلطة لسان وسمعة تخشى مضاربها كما لو كانت كاميرا تجسس لا يسلم من رؤيتها فرد في المجتمع.
والحقيقة العلمية تقول إنه لا يمكن إدراك البنية العميقة لأي مجتمع بناء على ملامسة الظواهر الطافية على سطحه، أو الملامح المعتادة فيه لكشف إشكالياته وفهم طبيعته وفك شفرات سلوكه، لكن التركيز على تفحص تلك التفاصيل الصغيرة في سلوكه وتتبع أثرها تتبعاً أنثروبولوجيا وتفكيكها كسلطة لا مرئية كأنها إيديولوجيا تنخر روح هذا المجتمع وتهدر نسيجه تحت مبررات تعسفية واعتباطية تفكير سلبي جاثم في وعيه.
في اليمن لا تبدو حياة الفرد حالة شخصية وحرية ذاتية وكياناً مستقلاً، يمتلك الفرد فيها كل خصوصياته وتسيير شؤون حياته بطريقته الخاصة ونظرته الواحدية وبحسب ما يفرضه واقعه الشخصي؛ وإنما الحقيقة مختلفة تماماً عن هذا التصور، فالفرد عبد مرتهن لثقافة اجتماعية وسلطة اجتماعية قاهرة تجبره على تنفيذ أعرافها ومنطق تقاليدها، وخشية منظوراتها المتعارف عليها في أوساط المجتمع، والخوف من أي انحراف أو تمرد يبرز على سلوك هذا الفرد أو ذاك يتجاوز منظومة الأنساق الاجتماعية في المأكل والملبس والزواج والطلاق والعمل وحل المشكلات التي غالباً ما تحل ليس وفقاً لمقتضياتها ودوافعها وأسبابها؛ بل وفقاً لما سيقوله الناس وكيفية تلقيهم لها وتقييم معان الرجولة والانضباط المجتمعي للفرد وفقاً لما سيقوله المجتمع عنه سلباً أو إيجاباً.
فالمجتمع يمارس رقابة مشددة على ذاته الجمعية بشكل كلي، والفرد/ الأسرة المنتمي لهذا المجتمع يمثل دور الرقيب للآخر إذا كان غيره محطة اختبار، وخاضع لنفس النسق الرقابي حيث الأنظار ستحط رحالها عليه لتحكم عليه وعلى أفعاله ونمط سلوكه في هذه الحياة، وهذا الأمر برمته ليس عابراً بمقدوره تجاوزه بيسر، وإنما أغلاله تقيده وتضبط تحركاته داخل مسكنه وبين أسرته وعليه الانصياع لتلك الهيمنة الخفية .
"ماذا سيقول عني الناس"؟.. "فين أودي وجهي من الناس"؟، تعبيرات بسيطة كهذه لكن خلفها سلسلة متكاملة من العلاقات الاجتماعية المعقدة التي تحتاج إلى دراسات أنثروبولوجيا وسيكولوجية وسوسيولوجية تفكفك تعقيداتها وتكشف كوارثها وما يرتكبه المجتمع بحق ذاته، ويبدو في آن واحد ضحية وجلاداً .
ومن هنا فإن ما نتغاضى عنه ويشكل ثقباً للفضيحة المتوهمة والسمعة الملوثة والشرف المنكسر ومنظار للتلصص علينا ليل نهار كقوة خفية هو تدخل المجتمع في حياتنا كأفراد أو أسر، وخشية تعليقه علينا بسلبية وانتقاص ودونية حتى وإن كان هذا المجتمع غارقاً في أخطائه وسلبياته لكنه يجبر الكل على مسايرته.
كثير من المآسي الناجمة عن مثل هذه الثقافة الرقابية التي نخشاها، ونحاول الظهور دوماً بما تمليه علينا، نرتدي الثياب الباهرة ونتمظهر حتى في صلة أرحامنا وتأدية طقوسنا الدينية وإقامة أفراحنا وأحزاننا؛ لكي نلفت نظر المجتمع نحونا، ونحصل منه على إطراء حتى لو كان وضعنا المعيشي لا يتناسب مطلقاً مع هذا المظهر البراق الزائف الذي كلفنا التنازل عن أشياء كثيرة عملاً بالقول السائر" كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس".
فثقافة المظاهر عقدة نقص مجتمعية تنهك المرء وتجعله في حالة عجز تام عن تلبية معطياتها، دون أي توازن بين ما نملكه وما ننفقه، وهذا أحد أسباب فشلنا في إقامة أسرة مستقرة مقتنعة بصورة حياتها، وتعيش بواقعية ومنطقية.
قد يبدو هذا المثال بسيطاً مقارنة بالصور الفادحة التي تسببها ثقافة المجتمع، فعلى سبيل المثال تتجرع المرأة العانسة أو المطلقة أو الأرملة وبالاً من التنمر والإذلال والاحتقار المجتمعي بصفتها نشازاً ونقطة سوداء متخمة بالعيوب وتلويث سمعة أسرتها، وتصبح هامشاً لا معنى له وتعامل بقسوة ونبذ حتى من أسرتها كون المجتمع أقر جرمها وأتفق على قبحها.
مظالم كثيرة ترتكب وحقوق كبيرة تستلب تحت ذريعة هذا التعسف المجتمعي بحق المرأة، والرجل أيضاً يناله نصيب من هذا إذا وقع في سياق الانفصال وفشل زواجه الأول، يقابل بنفور ومقت كلما قدم لخطبة زوجة أخرى بديلة؛ فتظل تطارده سمعة الزوج الفاشل المعيوب صاحب السوابق، واقعنا اليمني مليء بحكايات وسرديات مريعة لضحايا ثقافة مغلوطة وعادات ضحلة تمزق نسيج المجتمع رغم مخالفاتها الصريحة لقيم الشرع والقانون وحقوق الإنسان.
فلهذه الظاهرة صور عدة جاثمة على حياتنا ونتحمل أوزارها على مضض، ما زال في كثير من القرى والأرياف اليمنية موضوع العزاء يمثل نكبة مادية على أسرة المتوفي منها، أكثر من حزنها على فقدان واحد من أفرادها، حيث يتحول العزاء إلى حفل كرنفالي يمتد لأكثر من أسبوع، يلزم الأسرة بتوفير مستلزمات العزاء كإقامة موائد الغداء بالذبائح واستقبال المعزيين وملء أفواههم بأغصان القات ولواحقه من ماء ومدائع وشاي، لتظل بيت المتوفي تعج بالمعزيين منذ الظهيرة وحتى منتصف الليل عدة أيام، ولزاماً على أبناء الفقيد الإيفاء بهذا الطقس مهما كان عجزهم عن تحمل تكاليفه حتى لو ظلوا سنوات مديونين بسببه، لا لشيء ولكن لكي يقال أنهم شرفوا فقيدهم بعزاء يفتخر به في مثواه، وإن تنصلوا عن فعل ذلك فإن وصمة العار ستظل تطاردهم وينهرهم المجتمع بكل أطيافه دهراً.
أما حالات الزفاف في ثقافة المجتمع اليمني فتلك حكاية تحزن أكثر مما تبهج، وتعيق أكثر مما تقدم، وتنكب أكثر مما تسعد، إذ يعقب العرس تعاسة وعوز وإفلاس بعد أن استنفد حفل الزفاف مبالغ تفوق طاقة العريس ورتل من أسرته، الذين قدموا ما بوسعهم لإقامة الحدث بمظاهره التي يعظمها المجتمع ويشيد بها من صالات وجولات ومواكب إلخ، لكي يصبح الحديث عنه على كل لسان ويستحسنه الجميع، وإلا فإن التقصير في مناسبة كهذه تحظى بسخرية وتنمر، ولا أحد يتساهل فيها نظراً لظروف العريس وأسرته وتقدير حالتهما، أليس هذا تعدياً على حق الآخر وتطفلاً على حياته، ودفعه لإغراق نفسه بنفقات تفوق قدرته سعياً منه لإرضاء المجتمع وتعظيم صورته في نظره.
لا تقف الإشكالية عند هذا الحد، فغالباً ما نسمع عن فشل الزواج الذي كان حفله مثيراً، لأن التركيز فيه كان منصباً على الشكل أكثر من الموضوع، على المظهر والسمعة أكثر من الجوهر والتوافق، ليعود المجتمع للسخرية من صاحبه الذي تبختر في الزفاف وانتهى بالطلاق المبكر، ولذا فإن العزوف عن الزواج من قبل الشباب ليس عجزاً عن دفع المهر بل عجزاً عن تحمل تكاليف نفقات الزفاف التي تفوق المهر أضعافاً.
غريب أمر هذا المجتمع الذي تلقى صدمات مريرة ولم يتخل عن عاداته التي أثقلت كاهله وغدت ثقافة راسخة يتوارثها جيلاً بعد جيل دون أن يدرك مخاطرها على ذاته وغيره، وتعكر مسار حياته وتعقد عثوره على سعادته بيسر لو أنه تخفف من عبء هذا النمط من السلوك والتفكير.
ولا يقف خطر هذه المنظومة عند حد بعينه، لكنها تهمين على معظم سلوكنا وننساق لها دون تردد، ففي الخلافات الناشبة بين أفراد الأسرة الواحدة أو الجيران في الأرض أو في المسكن أو في السوق، يبذل كل واحد منا ما بوسعه للانتصار على خصمه مهما كانت أسباب الخلاف تافهة حتى لا ينعته المجتمع بالهزيمة والذل والضعف، فيكابر ربما سنوات في المحاكم أو في دواوين المشايخ ليظفر بما سيمنحه وسام الشجاعة من قبل الرقيب الجمعي، وياما ارتكبت كثير من جرائم القتل والثأر والشجار تباعاً لما يبثه المجتمع من سموم لفظية تدفع بالفرد لارتكاب حماقات تدمره وتدمر أسرته.
هذه المعضلة ربما تمثل الخنجر الذي ينخر المجتمع اليمني بعمق، ولم تستطع عقود من التعليم والتثقيف والتمدن والتحضر أن تنزعه من جسد الواقع، ولا يختلف المتعلم عن الأمي في الاستجابة لنداءات هذه المعضلة وإملاءاتها أو الخروج من بوتقتها والانسلاخ عنها، كونها نسقاً متجذراً في أعماق وعيه وتفكيره.
والسؤال الأبرز في هذا السياق الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هنا: ما الذي جعلني أثير هذه المعضلة في هذا التوقيت بالذات.
ربما التغلغل المفرط والرجعية الكثيفة لتفشي هذا الانجراف في أوساط المجتمع، خصوصاً في هذا العقد الأخير المضطرب المليء بالصراعات وخفوت ثقافة التمدن وتدفق أنماط بدائية من التفكير والسلوك في حياة المجتمع بشكل مخيف في المدن والأرياف في لحظة بائسة متخمة بالفقر وفقدان الذات الجمعية لهويتها المدنية وتوغل عادات القبيلة والبداوة والمجتمع التقليدي الذي تحكمه العادة أكثر من العقل والمنطق .
فمن نماذج الامتثال لمرآة المجتمع الرقابية أن نجد غالبية الناس يتباهى بإقامة مناسبات النجاح لأبنائه في المدارس والجامعات حتى وإن كان تحصيلهم العلمي ضحلاً في اللحظة التي يشهد التعليم أبأس مراحله، لكن تثبيت الزيف والانخداع بالشكل الهش يتغلب على الجوهر المنعدم.
لذا فنحن أمام شكل مختلف يبدو عليه المجتمع في سلوكه نجد أنفسنا غرباء معها، يتوجب وضع لحد له، فكل يوم نسمع ونرى كثيراً من الجرائم وحالات العنف التي كان مصدرها عجز مرتكبيها عن نيل الاعتراف بالتقدير، والتهميش الذي نالهم من مجتمع يعض بلسانه خصوصيات كل فرد، وينهش ستره فيدفعه إلى الانحراف والحمق لكي لا يتهم بالإخفاق طالما لم يرض المجتمع وجوده.
مقالات ذات صلة