- تعز.. المقاومة الشعبية في مديرية صالة تعلن جاهزيتها الكاملة للتحرير واستعادة الدولة

صهيب المياحي
الحوثي والقداسة الزائفة
كتابنا| 13 مارس, 2025 - 8:26 م
ليس هناك ما هو أكثر إثارة للشفقة من أن يكون العقل مستجيبًا لأوهام الكهنوتية، أن يتحول الإنسان من كائن مفكر إلى مجرد صدى يتردد في الفراغ، يهتف باسم زعيم لم يره، لم يلمس حضوره إلا في شاشة، كما لو أن الصورة أصبحت أكثر واقعية من الحقيقة، وكما لو أن هذا الغائب في كهفه أصبح إلهًا تُرفع له الأيدي، وتُطأطأ له الرؤوس.
إن الإيمان بعبدالملك الحوثي ليس إيمانًا، بل استسلامٌ ذهنيٌ لفكرة زائفة، فكرةٌ صُنعت بعنايةٍ لتُقدَّم كيقينٍ مقدس، بينما هي في حقيقتها محضُ خديعة. كيف يمكن لرجلٍ لم يره أحدٌ خارج كهفه أن يصبح رمزًا للخلاص؟ كيف يُرفعُ إلى مرتبة القائد المعصوم، وهو لم يواجه يومًا الواقع الذي يُطالب الآخرين بالموت من أجله؟
إن هذا الإيمان لم ينشأ من معرفة، بل من خوف، لم يتشكل من قناعة، بل من تكرار الأكاذيب حتى بدت وكأنها حقائق. كل نظام أو كيان قمعي يسعى لخلق قداسةٍ زائفة حول زعيمه، لتجريد الناس من قدرتهم على السؤال، لتحويل الطاعة إلى فضيلة، والشك إلى خطيئة. وهكذا، لا يُنظر إلى عبدالملك الحوثي كرجلٍ عادي، بل ككيانٍ فوق البشر، كحقيقةٍ لا تُناقش، رغم أن كل ما يحيط به لا يشير إلا إلى الهشاشة، إلى رجلٍ اختبأ بينما أُريقت دماء أتباعه دفاعًا عن سلطته.
إن خطر مظاهر الانحطاط الفكري أن يُعامل الرجل كإلهٍ لمجرد أنه يمتلك القوة، وأن يصبح الهتاف له طقسًا من طقوس الإيمان، وكأن الولاء يغسل العقول من حاجتها إلى الفهم. لكن الإيمان الحقيقي لا يكون في عبادة الأشخاص، بل في البحث عن الحقيقة، والحقيقة هنا واضحة: ليس هذا الرجل إلا وهمًا آخر يُباع لجمهورٍ اعتاد أن يعبد سجّانيه.
إن الإيمان بعبدالملك الحوثي ليس إيمانًا بقدر ما هو استسلامٌ لسلطة الوهم، ذلك النوع من الإيمان الذي يُزرع في النفوس عبر التكرار لا عبر البرهان، عبر الخوف لا عبر القناعة، حتى يصبح كاليقين المطلق الذي لا يقبل المساءلة. في كل الأزمنة، لم يكن الطغاة بحاجة إلى ذكاء خارق أو رؤية استثنائية، بل فقط إلى صناعة صورة تتجاوز حقيقتهم، إلى خلق هالة كاذبة تحيط بهم حتى يخالها الناس نورًا مقدسًا.
الإيمان بفكرة ما لا يكون خطرًا إلا حين يصبح بديلاً عن التفكير. وهنا، تكمن المعضلة الكبرى في الإيمان بعبدالملك الحوثي: إنه ليس إيمانًا نابعًا من تجربة شخصية أو إدراك عقلاني، بل هو نتاج منظومة دعاية طويلة الأمد، تقوم على إفراغ العقول من التساؤل وإحلال الطاعة مكانه. هذا النمط من الإيمان لم ينشأ من معرفة، بل من فرضِ صورةٍ نمطية لشخص لا يُخطئ، رجلٍ لا يظهر للعلن إلا عبر شاشاتٍ متحكم بها، محاطًا بهالة من الغموض تمنحه قوة زائفة، حيث يصبح غيابه عن المشهد دليلاً على قوته، وليس علامة على خوفه أو ضعفه.
لم يكن عبدالملك الحوثي أول من استُخدمت معه هذه التقنية، فالأنظمة الشمولية عبر التاريخ لطالما خلقت زعماءً غير مرئيين، أشباحًا تفرض نفسها على الواقع دون أن تكون جزءًا منه. ستالين لم يكن مجرد ديكتاتور، بل كان "الأب المقدس" الذي لا يُرى إلا عبر صوره المنتشرة في كل زاوية. الخميني لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل تجسد في المخيال الشيعي كظل للإله على الأرض. وهكذا، يتكرر النمط ذاته: رجلٌ يختبئ، لكنه يُقدَّس، يغيب عن المشهد، لكنه يُرى كحاضرٍ مطلق.
الطغيان، في جوهره، ليس مجرد ممارسة للقوة، بل هو قبل ذلك مشروعٌ لإعادة تشكيل الوعي، بحيث يصبح الخضوع فضيلةً، والتمرّد جريمةً أخلاقية. وهنا، يكون الإيمان بشخص الزعيم ضرورةً حتمية، إذ أنه يُجرد الناس من حاجتهم إلى التفكير، ويمنحهم وهم الأمان في ظل "القائد الحكيم". فبدلًا من أن يبحث الإنسان عن الحقيقة، يُطلب منه فقط أن يُصدق، بدلًا من أن يرى الواقع كما هو، يُطلب منه أن يراه كما يفرضه خطاب السلطة.
لكن عبدالملك الحوثي، على عكس الطغاة التقليديين، لم يُقدم حتى خطابًا مقنعًا، لم يُخاطب الناس إلا بما يحرك غرائزهم البدائية: الطائفية، الكراهية، الخوف من الآخر. إن هذا النوع من الزعامات لا يبني شرعيته على الإنجازات، بل على افتعال الأعداء. فهو لا يحتاج إلى أن يكون حاضرًا في حياة الناس كقائدٍ فعلي، بل يكفي أن يكون حاضرًا في مخيلتهم كرمزٍ للخلاص، كحامٍ مزعومٍ من خطرٍ دائم، خطرٍ هو ذاته من خلقه وكرّسه.
تاريخيًا، كان القادة العظماء هم من يواجهون مصائرهم علنًا، يقفون في مقدمة الصفوف، يدفعون ثمن خياراتهم مع شعوبهم. لكن عبدالملك الحوثي يمثل نقيض ذلك تمامًا، إنه نموذج القائد الذي لا يظهر إلا في اللحظة التي يُملى عليه فيها أن يتحدث، لا يقف في مقدمة الجبهات، بل يرسل الآخرين للموت دفاعًا عن سلطته، لا يعيش بين الناس، بل يختبئ بعيدًا عنهم، محاطًا بحرسه ونخبه الخاصة.
هذا الغياب الجسدي ليس مجرد تصرفٍ أمني، بل هو استراتيجية بحد ذاته، إنه ما يمنحه هالة الغموض، وما يجعل أتباعه يحيكون حوله الأساطير. فالعقل البشري، حين يُحرم من رؤية الحقيقة، يبدأ في نسج التفسيرات التي تملأ الفراغ. يقال إنه لا يظهر لأنه مستهدف، لكن الحقيقة أنه لا يظهر لأنه لا يملك ما يقوله، لا يواجه، لأنه لا يستطيع أن يواجه، يختبئ، لأن سلطته قائمة على الصورة لا على الواقع.
الإيمان، في جوهره، هو فعلٌ روحي، يتجاوز الواقع المادي بحثًا عن معنى أسمى. لكنه حين يُفرض بالقوة، حين يُجرد الإنسان من حريته في الشك، يتحول إلى أداةٍ للعبودية. وهكذا، يصبح عبدالملك الحوثي نموذجًا لإلهٍ زائف، إلهٍ لا يمنح الحياة، بل يطلب الموت، لا يقدم الحقيقة، بل يفرض الأكاذيب، لا يحرر الإنسان، بل يجعله تابعًا خاضعًا.
إن أخطر ما في هذا الإيمان أنه لا يترك مجالًا للعقل كي يرى الحقيقة، بل يغلق عليه كل نوافذ الشك. وحين يصبح الشك محرّمًا، يصبح الطغيان مقدسًا.
لكن التاريخ لا يحفظ أسماء الطغاة إلا كمجرمين، ولا يسجل أسماء الديكتاتوريين إلا في قائمة المنبوذين. عبدالملك الحوثي ليس استثناءً، ولن يكون، تمامًا كما لم يكن من سبقوه. فالزمن كفيلٌ بأن يكشف زيف الإيمان المزروع بالخوف، وأن يعيد للعقول قدرتها على الرؤية، بعد أن تُكسر الأصنام، ويسقط القناع عن هذا "الإله" المزيف.
مقالات ذات صلة