- فوكس نيوز: الحوثيون أطلقوا صاروخا على مقاتلة أميركية وإدارة ترامب تناقش حاليا أفضل السبل لمواجهتهم
مخطّط تفكيك فلسطين
أراء| 9 فبراير, 2025 - 9:07 م
في المنطق الاستعماري، تصبح الجغرافيات الوطنية حدوداً متحرّكةً قابلة للزحزحة والتغيير وفقاً لتفاهمات اقتسام مناطق الموارد أو تسويات إدارة بؤر النزاعات، التي تستند إلى تهجير الشعوب الأصلية من بلدانها ومصادرة حقّها في تقرير مصيرها.
ويجدد المنطق الاستعماري نفسه في كلّ مرحلة تاريخية تبعاً للمتغيّرات الدولية والإقليمية، فتوجّه الإدارة الأميركية دبلوماسيتها ومواردها السياسية لإعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط، نحو "الشرق الأوسط الجديد"، بداية من البوابة الفلسطينية، من خلال فرض سيناريو مستقبل قطاع غزّة ما بعد الهدنة، ويقتضي تهجير الفلسطينيين من أرضهم شرطاً لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
تتماثل السياسة الاستعمارية الأميركية - الإسرائيلية في بعدها الاحتلالي والتوسّعي بفرض تمثّلات القوة، وتوظيفها في تحريك الحدود الجغرافية على حساب الحدود الوطنية للدول ذات السيادة، وأيضاً على حساب السكّان الأصليين، من خلال استخدام أوراق ضغط متعدّدة في رأسها القوة العسكرية.
وفي هذا السياق التحالفي، الذي يخدم سياسات الهيمنة، تحولت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أداةً فاعلةً لتسريع مخطّطات حليفتها الاحتلالية في فلسطين، من خلال فرض استراتيجية تهدف إلى تفكيك القضية الفلسطينية، وإجلاء الفلسطينيين من أرضهم التاريخية، فإضافة إلى الدعم العسكري والسياسي غير المشروط، الذي أتاح لإسرائيل المضي باستخدام القوة ضدّ الفلسطينيين، وتجاهل تصعيدها العسكري في مخيّمات الضفة الغربية.
فإن إدارة ترامب تبنّت سياسة التهجير القسري في حقّ الفلسطينيين، وذلك بدعم النهج الاستيطاني في مدن الضفة الغربية، من رفع العقوبات ضدّ المستوطنين المتورّطين في انتهاكات ضدّ الفلسطينيين، إلى تمكين الحكومة الإسرائيلية في توسيع بناء المستوطنات، وبالتالي تكريس تمدّد دولة الكيان الإسرائيلي في الضفة، في مقابل تجريف السلطة الفلسطينية وتطويقها، فيما تشكّل استراتيجية إدارة مستقبل قطاع غزّة ما بعد اتفاق الهدنة الضلع الثاني في سياسة تفكيك فلسطين التاريخية وتصفية القضية الفلسطينية..
فإلى جانب ربط حالة العنف في القطاع ببقاء الفلسطينيين في غزّة، وليس بحرب الكيان الإسرائيلي، فإن إدارة ترامب تشترط وقف العنف وتثبيت الأمن في غزّة، وأيضاً في المنطقة، في ترحيل الفلسطينيين، وترجمتها في طبيعة الحلول المقترحة لإعادة إعمار القطاع، ووضعها في صلب التفاهمات الأميركية - الإسرائيلية لاستباق ترتيبات المرحلة الثانية لاتفاق الهدنة في غزّة، وذلك بتهيئة المناخ السياسي الإقليمي والدولي لتهجير أهالي غزّة وتطهير المنطقة.
إضافة إلى البناء على حالة وقف إطلاق النار لفرض أمر واقع قد يؤدّي إلى تثبيت مسار إخلاء غزّة على المدى البعيد، فضلاً عن تحريك أوراق الضغط على دول الجوار لقبول مقترح استقبال الفلسطينيين، إضافة إلى تحويل إعادة الإعمار ورقةَ ضغط سياسية واجتماعية قد تؤدّي إلى هجرة الفلسطينيين طوعياً من القطاع.
تفكيك فلسطين التاريخية، وتصفية القضية الفلسطينية، يقتضيان بلورة استراتيجية طويلة الأمد، بيد أن مؤشّراتها تظهر في سياسة إدارة ترامب حيال فلسطين في الوقت الحالي، وذلك باستغلال هدنة وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، والترتيبات الأمنية عواملَ يمكن البناء عليها لتجريد حركة حماس من العودة إلى السلطة، وخلق معادلة جديدة في الأرض، فقبل المضي للمرحلة الثانية من اتفاق الهدنة.
بدأت الإدارة الأميركية بتكثيف حضورها بشكل غير مباشر من خلال استقدام شركاتٍ أمنيةٍ خاصّةٍ تشرف على إدارة المنافذ واستقدام جنود أميركيين سابقين للقيام بذلك، وقد تتحوّل مهمة الشركات الأمنية الأميركية في القطاع من مراقبة الحركة البشرية في المنافذ إلى مهمة عسكرية، تستغلّ حالة الفراغ الأمني للسلطة لترتيب شكلٍ للوجود الأميركي الدائم، الذي يخدم بالطبع دولة الكيان الإسرائيلي.
يوازي ذلك، أن فتح منفذ رفح أخيراً وتولّي قوة أمنية تابعة للاتحاد الأوروبي الإشراف على المنفذ، يعني العودة إلى ما قبل سيطرة "حماس" على السلطة في القطاع، وفرض أمر واقع جديد قبل أيّ تفاهمات سياسية لإدارة مستقبل غزّة.
ومع أن الإدارة الأميركية تشترط (كحال حليفها الإسرائيلي) إعادة إعمار غزّة بتولي سلطة محلّية غير حركة حماس، أو قوة أمنية دولية وإقليمية، فإنها تسعى لاستثمار إعادة الإعمار ورقةَ ضغط سياسية على "حماس"، قد يؤدي إلى ضرب حاضنتها الشعبية، إذ إن تثبيت حالة الدمار في غزّة، وتحويل ملفّ إعادة الإعمار ورقةَ مساومةٍ طويلةَ الأمد، من ربط ملفّ الإعمار بالسلطة التي سيُتوافق عليها مستقبلاً، إلى تشتيت أيّ مسعى توافقي إقليمي في هذا الخصوص، يجعل "حماس" أمام ضغط اجتماعي وشعبي بتحميلها مسؤولية إعاقة تطبيع الحياة اليومية.
إلى جانب ذلك، فإن تعطيل مشروع إعادة الإعمار، وربطه بالوضع السياسي الداخلي الفلسطيني ينمّي الحالة التنافسية بين "حماس" والسلطة الفلسطينية، بما في ذلك الصراع على إدارة غزّة، وفي ظلّ غياب مشروع فلسطيني موحّد، ورؤية لمستقبل القطاع، قد يؤدّي إلى استبعادهما من أيّ دور فاعل في المرحلة المقبلة، في مقابل احتكار الإدارة الأميركية وحليفها الإسرائيلي إدارة مستقبل القطاع، وفرض أجندتهما، سواء كان باتجاه تقسيم القطاع إلى مناطق أمنية أو تهجير الفلسطينيين من غزّة.
تتلازم معضلة إعادة إعمار قطاع غزّة، وتعقيدها، مع مضامين سياسات تهجير المواطنين في الوقت الحالي أو على المدى البعيد، ومع أن إعادة إعمار غزّة قد تتطلّب وقتاً طويلاً، قياساً لحالة الدمار المعمّم جرّاء الحرب الإسرائيلية، فإن الواقع اليومي في القطاع يتطلّب إنسانياً وأخلاقياً تعليق الشروط السياسية لإعمار غزّة، بالبدء بتأهيل البنى الخدمية والمرافق السكّانية على الأقل المدمّرة جزئياً لتمكين المواطنين من الاستقرار في مناطقهم، شرطاً إنسانياً مُلِحّاً يتجاوز التدخّلات اليومية العاجلة لإنقاذ الحياة.
إلا أن إدارة ترامب قد تهدف إلى تثبيت الوضع القائم في غزّة بيئةً طاردةً، وورقة ضغط متعدّدة الأوجه، لدفع المواطنين إلى تقبّل خيارات بديلة، ومنها الهجرة الطوعية، إذ إن انتفاء أيّ إمكانية للحياة في مدن القطاع، بدءاً بالسكن إلى ضمان الحدّ الأدنى من المعيشة، وكذلك إيجاد فرص العمل، ناهيك عن تأمين مستقبل الأطفال، فيما تستمرّ سردية العيش في مخيّمات النزوح في ظروف لاإنسانية وتشكّل تحدياً يومياً يمسّ حياة المواطنين، اجتماعياً واقتصادياً أيضاً.
فإلى جانب التكدّس البشري في المخيّمات، فإن التنافس على السكن في المباني المؤهّلة للعيش، يجعل المواطنين في صراع يومي من أجل البقاء، إضافة إلى تنامي المنازعات بين الأهالي، فيما يشكّل الجانب الاقتصادي والمعيشي ورقةَ ضغط أخرى، وذلك بالتنافس على الموارد الشحيحة في القطاع، ومن ثمّ فإن تأبيد هذا الواقع القهري على الفلسطينيين، وتحويل إعادة إعمار غزّة إلى ورقة مساومة، يخلق ظروفاً طاردة قد تؤدّي إلى تفضيل المقتدرين من الفلسطينيين مغادرةَ القطاع، وبالتالي الهجرة طوعياً لتفادي بؤس حياة الفاقة.
من أجل أمن إسرائيل، لا أمن المنطقة، توائم الإدارة الأميركية سياساتها ما بين تفكيك فلسطين التاريخية وتهجير الفلسطينيين، واستمرار نزع الصفة القانونية والسيادية عن الهيئات السياسية الفلسطينية، سواء السلطة الفلسطينية أو حركة حماس، ووفق العقيدة الاستعمارية نفسها، تجردهما من الحقّ في تقرير مصير فلسطين وتحديد مستقبلها السياسي.
إذ إن بقاء فلسطين أو اختفائها بحسب السياسة الأميركية نتاج للوضع الإقليمي، وقبلها لفنّ إدارتها للصفقات مع شركائها، وهو ما يتضح في سياساتها، فما بين المساومة على حلّ الدولتَين، إلى إشراك حلفائها في تقرير مصير مستقبل قطاع غزّة، ما بعد الهدنة، لا في تنمية السلطة الوطنية في فلسطين، بل في قبول دول الجوار، وتحديداً مصر والأردن، مقترح إيواء الفلسطينيين، باعتباره الحلّ الأمثل لإعادة إعمار غزّة.
بيد أن هذه السياسة الاستعلائية لا تعكس الطابع الاستعماري للإدارة الأميركية فقط، بسعيها إلى تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وتطهير غزّة الذي يعني تعدّيها السافر على حقّ الشعب الفلسطيني، وانتهاك المواثيق والشرائع الدولية، بل يتناقض هذا النهج مع سياستها الداخلية، إذ إن تدشين ولاية ترامب الثانية بترحيل اللاجئين بالقوة، وبشكل لا قانوني ولا إنساني، وإجبار دولهم على استعادة مواطنيها، فإنها تضغط على السلطتين المصرية والأردنية دبلوماسياً، وبالتلويح بالقوة، لقبول استضافة الفلسطينيين، وتحويل مصر والأردن وطنان بديلان للفلسطينيين، منتهكةً بذلك الأعراف الدبلوماسية وسيادة الدول.
وفي مقابل بلورة الإدارة الأميركية رؤيتها لمستقبل غزّة، فإن الموقف العربي الرسمي لا يزال قاصراً عن مواجهة هذه التحدّيات الخطيرة، فلا تزال الدول العربية تتعاطى مع فلسطين إمّا جزءاً من صفقة كُبرى للتطبيع مع إسرائيل في المستقبل، أو باعتبارها مشكلةً أمنيةً تمسّ أمنها القومي، بما في ذلك دول الجوار الفلسطيني، ومن ثمّ نفتقر إلى استراتيجية عربية موحّدة، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، لمواجهة أيّ إكراهات أو مساومات تفرضها الإدارة الأميركية.
في المعركة المصيرية، ما بين السكّان الأصليين والمحتلّين، تبقى سردية مقاومة الاجتثاث ودعوات التطهير، وإذا كانت القوى الاستعمارية لا تزال ترى في شعوب الأرض "هنوداً حمراً" يمكن إبادتهم واحتلال أوطانهم، فإن فلسطين التاريخية هي سردية مكثّفة لرفض هيمنة القوة والاستعلاء، إذ إن أهالي غزّة الذين قطعوا أكثر من ثمانين كيلومتراً سيراً على الأقدام للعودة إلى منازلهم المدمّرة في شمال القطاع، في أعظم مسيرة للحياة في هذا القرن، هم ذاكرة اليوم والغد والمستقبل، لمعنى وصور التشبث بالوطن، وإن تكالبت عليهم ظروف الحياة القاهرة وبطش المحتلّين.
مقالات ذات صلة