الأخبار

البردوني.. سيرة ملهمة لشاعر حوّل التاريخ إلى قصيدة

‫مجتمع ‬‫وثقافة‬| 17 فبراير, 2025 - 9:10 ص

image

في عام 1929، وفي قرية البردون بمحافظة ذمار شمال اليمن، ولد عبد الله صالح البردوني، ولم يكن يدري أنه سيحمل في اسمه ظل قريته، لكنه سيجعل صوته يتجاوز حدودها إلى الآفاق البعيدة. كان قدره أن يعيش في الظلام منذ سن الخامسة، بعدما أصيب بالجدري الذي أفقده بصره، لكن الحياة وهبته في المقابل، عينا ثالثة ترى ببصيرة نافذة، تتجاوز حدود الرؤية العادية.

في طفولته، لم يكن الطفل الأعمى كغيره، كان ذا ذهن وقّاد وذاكرة مذهلة، فتعلّق باللغة، وأحب تلاوة القرآن، وكان صوته العذب يملأ المسجد بخشوع خاص.

بدأ البردوني تعليمه في كتاتيب القرية، حيث تلقّى دروسا في الفقه واللغة العربية، ثم التحق بالمدرسة الشمسية في ذمار، فكانت أبواب المعرفة تتفتح أمامه تدريجيا، رغم العوائق التي كان يفرضها الواقع اليمني المتخلف في ذلك الوقت.

الطريق إلى صنعاء.. بوابة التحول الكبير

لم تكن ذمار سوى بداية بزوغ نجم البردوني، لينتقل إلى صنعاء، المدينة التي منحته أفقا أوسع للدراسة في دار العلوم.

هناك، انكب البردوني على قراءة عيون الشعر العربي، من امرئ القيس حتى المتنبي والمعري، فوجد نفسه أكثر قربا من الأخير، ذلك الفيلسوف الأعمى الذي أدار ظهره للعالم، لكن البردوني لم يكن زاهدا مثل المعري، بل كان منغمسا في تفاصيل الواقع، يسجله في قصائده، وينتقده بجرأة لم يسبقه إليها أحد في اليمن.

كان البردوني يعشق صنعاء، لكنه كان يراها مدينة تتجدد في الخراب، كتب عنها في واحدة من أشهر قصائده:"ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟" "مليحة عاشقاها السل والجرب".كانت صنعاء في عينيه صورة للوطن بكامله، وطن يشيخ تحت وطأة الفقر، ويسقط تحت سيف الطغيان، لكنه يظل حيا، عنيدا، متشبثا بجذوره كأشجار البن في جباله الشاهقة.

البردوني في قلب التحولات العاصفة

عاش البردوني مرحلة التحولات السياسية العاصفة التي مرت بها اليمن، بدءا من العهد الملكي، وصولًا إلى الجمهورية. لكنه لم يكن شاعر السلطة، بل كان شاعر الشعب، فظل يهاجم الظلم، ويتناول قضايا المجتمع، وينتقد الأخطاء بأسلوب تهكمي لاذع.

كان الشاعر عبد الله البردوني جريئا في مواجهة السلطة، فلم يتردد في توجيه كلماته الحادة إلى الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، آخر ملوك الإمامة الكهنوتية، الذي لُقّب بـ"أحمد يا جناه". وفي الذكرى العاشرة لعيد جلوسه على العرش، بعد فشل ثورة 1948 التي سعت للإطاحة به، أطلق البردوني أبياتا تحمل تحذيرا ووعيدا، قائلًا:

عيد الجلوس أعر بلادك مسمعاً.. تسألك أين هناؤها هل يوجد؟

فيم السكوت ونصف شعبك هاهنا.. يُشفى ونصفٌ في الشعوب مشرد.

نعم فقد كان صوتا حرا في زمن أريد فيه لليمني أن يعايش الظلم ويخرس، لذلك كان محاصرا دائما، ممنوعا من السفر أحيانا، مهددا أحيانا أخرى، لكنه لم يتوقف عن قول الحقيقة.

الشعر.. هوية البردوني وسلاحه في مواجهة الطغاة

كتب البردوني الشعر لأنه كان الوسيلة الوحيدة ليعبر عن رؤيته للعالم. لم يكن شاعرا وجدانيا يتغنى بالعشق أو الغزل، بل كان شاعر القضايا الكبرى، والشوارع الضيقة، والأزقة الفقيرة، والمقاهي التي يتجمع فيها البسطاء. كان شاعر اليمن بكل ما فيها من تناقضات، لذلك جاءت لغته مزيجا من البلاغة الكلاسيكية والحداثة المجروحة، حيث تجتمع الصور العميقة، والرموز الفلسفية، مع لغة بسيطة تصل إلى الجميع.

أبرز دواوينه

بالنظر إلى إرث البردوني يمكن القول إنه تجاوز كونه شاعرا، إلى مؤرخ شعري لليمن، حيث رصد التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في دواوينه التي شكلت وثيقة أدبية فريدة، ومن أبرزها:

"من أرض بلقيس": كان هذا الديوان بمثابة الإعلان الأول عن موهبة شعرية فذة.

"في طريق الفجر": حمل نَفَسا ثوريا متأثرا بأحداث اليمن.

"لعيني أم بلقيس": تجسيد لصورة الوطن في هيئة امرأة ملحمية.

"السفر إلى الأيام الخضر" : عودة إلى الحنين والبحث عن حلم يمني ضائع.

"زمان بلا نوعية" : نقد لاذع للواقع السياسي والاجتماعي المتردي.

"ترجمة رملية لأعراس الغبار" : عنوان يعكس قدرة البردوني على التجريد الرمزي العميق.

"كائنات الشوق الآخر": فلسفة الحنين واللاجدوى.

"رواغ المصابيح" : تأملات في الزمن والموت والمستقبل المبهم.

البردوني الفيلسوف

لم يكن البردوني شاعرا تقليديا، بل كان أشبه بـ فيلسوف يحمل قناع شاعر، يتأمل الزمن والحياة والموت بمزيج من التهكم والسخرية والمرارة. كانت قصائده مشبعة أحيانا بفلسفة العبث، حيث يطرح أسئلة دون إجابات، ويؤمن بأن الواقع أكثر تعقيدا من أن يُختزل في أيديولوجيا أو رؤية سياسية واحدة.

الرحيل.. وانطفاء المصباح الأخير

في 30 أغسطس 1999، رحل البردوني عن هذه الدنيا، لكن كلماته بقيت تضيء العتمة. عاش كالأعمى الذي أبصر أكثر مما رأى المبصرون، وكتب عن الواقع بحبر من نار، حتى صار رمزا لكل مثقف حر، ولكل شاعر لم يخضع لسلطة أو مال أو جاه.

في جنازته، سار اليمنيون يرددون أبياته، وكأنهم يودعونه بكلماته، بينما كانت صنعاء حزينة، كأنها فقدت أعظم من غنّى لها.

إرث خالد في الذاكرة اليمنية والعربية

لم يكن البردوني مجرد شاعر يمني، بل كان شاعرا عربيا وإنسانيا عالميا، تجاوزت كلماته حدود بلاده، لتصل إلى كل من يبحث عن الحرية، ومن يرى الشعر ضوءا في نفق، وصوتا ضد الطغيان، وصرخة في وجه الصمت.

اليوم وبعد مرور ربع قرن على رحيل البردوني، لا يزال اسمه حاضرا وقصائده تتردد ملئ الآفاق، مجسدا حقيقة أن الكلمات الحقيقية لا تموت، بل تبقى لتتحدى النسيان.

المصدر: موقع السفارة اليمنية في قطر

| كلمات مفتاحية: البردوني
[ الكتابات والآراء تعبر عن رأي أصحابها ولا تمثل في أي حال من الأحوال عن رأي إدارة يمن شباب نت ]
جميع الحقوق محفوظة يمن شباب 2024