- هل تتغير إستراتيجية واشنطن في مواجهة الحوثيين باليمن؟ تقارير أمريكية تضع سيناريوهات جديدة منها "استهداف القيادات" أبين.. مشادة كلامية تودي بحياة شاب طعنًا بالسكين والشرطة تضبط الجاني برنامج الأغذية العالمي يؤكد حاجته لتمويل بقيمة 16.9 مليار دولار برشلونة يتعثر أمام سيلتا فيغو وأتليتيكو مدريد ينجو من فخ ألافيس غزة.. استشهاد 120 فلسطينيا خلال 48 ساعة والاحتلال يجبر سكان حي الشجاعية على النزوح اليمن.. الأرصاد يتوقّع هطول أمطار متفاوتة الشدّة خلال الساعات القادمة الأمم المتحدة: فرص الحد من الإصابة بالكوليرا في اليمن لا تزال مقيّدة
صلاح الأصبحي
عن المثقف اليمني!
كتابنا| 26 أكتوبر, 2024 - 3:30 م
عندما ينزلق المجتمع إلى الهاوية، والغرق في إشكاليات مصيرية ونكسات وجودية تغير مسار وجوده، وتعيده عقوداً إلى الوراء، تنتصب التساؤلات الباحثة عن دور المثقف وتماهيه مع هذا الانزلاق، وكان الأجدى أن يكون صوته مؤثراً وفكره مانعاً في تجنب المصير المرعب.
وقبل أن أتوغل في تمحيص حقيقة المثقف اليمني إزاء الأحداث الهدامة لوطنه طيلة عقد أثارت انتباهي مقولة هامة لباسكال بونيفاس في مقدمة كتابه (المثقفون المزيفون): "يذهلني كل أولئك المثقفين والخبراء الذين لا يتورعون عن اللجوء إلى حجج مخادعة وإطلاق الأكاذيب من أجل حصد التأييد. تبدو وقاحتهم وانعدام ذمتهم بلا حد وتشكل ورقة رابحة، وبدلاً من مقابلتهم بالاستهجان العام يقابلون بمزيد من التهليل".
يثير التوصيف المشار إليه في عنوان الكتاب جدلاُ ديكارتياٌ ينم عن تساؤلات فلسفية وفكرية تطمح بالعثور على إجابات مقنعة حول صورة المثقف اليمني وعرف بها، وجعلها شاهداُ على وجوده وسلوكه.
ولستُ هنا أول من يرغب بتلمس ومقاربة هذا الإشكال بل على العكس فقد أثرت الخوض في هذا المجال من خلال التدافع غير المسبوق من قبل المهتمين والمنتمين إلى هذا السياق، وهم في حيرة وقلق وجودي إزاء كيانهم المضطرب ولحظتهم المتأزمة التي جعلتهم مثار تندر وتساؤل.
فنظراٌ لإكلينيكية المشروع السياسي اليمني والإحباط المتفشي في وجدان المجتمع تبقت نتفٌ من اللحظات الذهنية لدى الغالبية المتوجسة على مستقبل الوطن وإمكانية تفادي التلاشي من خارطة العالم، وتم تكريسها ناحية المثقف اليمني، ووضع خطوط حمراء تحت اسمه؛ عله يستشعر ذلك الموت السريري الذي خذل مشروع بناء الدولة، وهل يبدو على قناعة بتلك النتائج التي وصل إليها حال البلاد.
لعقدين ظل النظام الجمهوري متصدعاً بسب الصراعات بين مكوناته رغم أنه استتب بشكل صوري في عهد الرئيس صالح سياسياً لكنه لم يشهد استقراراً ثقافياً وتنويرياً كلياً
فالخلاصات التي توصلت إليها الكتابات المتناثرة في شتى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة ما زالت تعتبره ورقة متبقية بمقدورها إماطة اللثام وزحزحة الجمود الذي بتنا وسطه مشلولين واقعاٌ وافتراضاٌ.
الجدير بالذكر أن هذا التوجس اشتعل إبان سقوط صنعاء 2014م وسقوط الحياة والأحلام والمستقبل دفعة واحدة في اليمن، ويدرك المراقب أن استحضار المثقف في هذا التوقيت جاء متأخراٌ جداٌ بعد فوات الأوان وذهاب الفرصة التي كان بمقدور المثقف تقديم واجبه حيال ما يجري هذا من جانب، أما الجانب الأخر فإن هذه الكتابات ظهرت بصورتين: صورة تنعته بـ الارتزاق والعجز، والأخرى فشلت في التوصيف وغلب ميول الكاتب على التقييم واكتشاف السر الكامن وراء ذلك.
ومن هنا فقد أخذتني تلك التناقضات للخوض في هذا الموضوع المتشعب الخاص بالمثقف اليمني وهل هو مستوعب للمسؤولية التي على عاتقه أم أنه منشغل بقضايا نفسه ومتطلبات حياته، متجاهلاٌ المواقف البطولية التي نأملها منه.
ثمة اعتبارات وضعتها في الحسبان مثل القول إن المثقف ليس كائناً من السهل التحكم به وخلق نسخ متعددة منه بتلك المواصفات والمقاييس المعروفة التي حددها رجال الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع، بحيث باتت نموذجاً يتم إسقاطها على كل من يتناول جنس المثقف ويكتب عنه، فالمفاهيم يصعب ضبطها وتداولها في كل حيز جغرافي نظراً لاعتبارات جيوسياسية وابستمولوجية معينة.
فقوانين المجتمعات والشعوب لا تسير على وتيرة واحدة كما أن معطيات اللحظة التي عليها المثقف تختلف من حين لآخر، فاليمن بلد ناء منحدر من سبات عميق كان غارقاً فيه ردحاً طويلاً من الزمن بين الجهل والتخلف والقهر، فلم تمض على ثورة 26 سبتمبر أكثر من خمسة عقود وهي الثورة التي أخرجت اليمن إلى الوجود بعد أن كان ملغياً تماماً.
أضف إلى ذلك أن هذه الثورة لم تكن بتلك الصورة التي عملت على تغيير المجتمع جذرياً، وإنما سيبقى جزء من نمط العهد البائد سارياً في جسد هذا المجتمع الناشئ، ولنقل إن النظام الجمهوري الجديد واجه تحديات جسيمة مع الهيكلية المتسلطة قبله، وظل في صراع مستميت معها لفترة طويلة ثم انكمش ذلك الصراع ليتخذ شكلاً آخراً من ارتداء لباس الجمهورية وابتلاع اللحظة بتداعياتها.
ظل المثقف اليمني قابعاً في منطقة الظل، عاجزاً عن إثبات حضوره، والانحياز للقيم الديمقراطية والثوابت الوطنية والمكاسب الثورية، صارخاً في وجه المشاريع التدميرية السياسية والفكرية والاجتماعية التي ستبتلع حاضر ومستقبل اليمن.
والجدير بالذكر أنه لعقدين ظل النظام الجمهوري متصدعاً بسب الصراعات بين مكوناته رغم أنه استتب بشكل صوري في عهد الرئيس صالح سياسياً لكنه لم يشهد استقراراً ثقافياً وتنويرياً كلياً، فضلاً على أن الطبقة المثقفة لم تشهد نمواً سريعاً واتساعاً مشهوداً نظراً لبطء التعليم وتدني مستواه وعدم إحداثه نهضة تثقيفية وتنويرية تخلق وعياً حقيقياً وفكراً تحديثياً وانتصار القيم الوطنية على العادات التقليدية المجتمعية فكراً وسلوكاً.
وكانت القبضة الإيديولوجية الدينية قاسية وعملت على كبت المجتمع ثقافياً وتعكير خروجه من بوتقة الماضي بل غدت رقيباً وخصماً كلياً للتحديث والانفتاح والتنوير باستثناء الإيديولوجيا اليسارية التي كانت معنية بتطوير المجتمع وتشجيع أنماط التثقيف من فن وأدب ومسرح رغم تطرفها الإيديولوجي المنافي لطبيعة المجتمع وتركيبته الاجتماعية.
ومن هنا فإن شخصية المثقف اليمني في العقد الأخير لم تكن منفصلة عن الزمن الذي سبق هذه الفترة إلا أن التغيرات السياسية التي حملها هذا العقد قد أحدثت ارتجاجاً فكرياً ونفسياً واجتماعياً صادماً له، وأفقدته توازنه وسكونه المميت، كاسرة بذلك جموده وصمته المريب، ومهشمة للحواجز المقيدة لسلوكه المتأزم، وباعثة في نفسه الثقة من جانب ووضعه في صراع وتساؤل مع ذاته إزاء حركة تحول الواقع، وهذه الوضعية جعلته يتردد في إبداء ردة فعل مناسبة تنجم من كائن يُرتقب منه أية حركة تستدعيها تحديات اللحظة في الربيع العربي مثلاً.
ظل المثقف اليمني قابعاً في منطقة الظل، عاجزاً عن إثبات حضوره، والانحياز للقيم الديمقراطية والثوابت الوطنية والمكاسب الثورية، صارخاً في وجه المشاريع التدميرية السياسية والفكرية والاجتماعية التي ستبتلع حاضر ومستقبل اليمن.
حتى أصبح في مأزق لم يعهده من قبل، وذلك بما فرضته طبيعة هذه المرحلة عليه مادياً وحاصرته من جوانب عدة يكاد لا يتنفس منها، لم يعد المثقف مرجعاً يعتمد عليه في المهام الصعبة واللحظات الحرجة كون معارفه لها قيمة في فكفكة التعقيدات المحيطة بنا اليوم وامتلاكه شفرات التعامل معها؛ بل أثبت فشله وانحساره وتراجع دوره، حيث بقي خارج السرب منذ سنوات، منذ أن تقدمه السياسي المتقبيل، والشيخ المسؤول، وتم صناعة مثقفين مزيفين على قدر مستوى وعي السلطة وثقافتها وعلاقتها مع جنس المثقف، فغاب المثقف الحقيقي الفاعل سياسياً وثقافياً واجتماعياً.
لذا ليس له اليوم أي صدى، بات هامشاً يتبنى أفكار وطموح مشاريع سياسية غير وطنية، والبلاد تتمزق بـ الصراع الجذري بين الإمامة والجمهورية، وإحياء رغبات تشطيرية ومناطقية وطائفية وتبعية خارجية تتحكم بمصير اليمن وإرادته، كل هذه الأوهام غدت واقعاً ملموساً تحرك المثقف المزيف وتخضع صورته لرغبتها والترويج لأهدافها، ومع هذا علينا تقبله باسم المثقف، وهو يمجد الاستبداد والمرجعيات الأصولية والأيديولوجيات المتخلفة، والتخلي عن الهوية الوطنية ونفخ أبواق التشظي والتصدعات التي تؤدي إلى الغرق في محنة الخراب والدمار وضياع الوطن المستقر.
حينما نتحدث عن مثقف مثل الجاوي والبردوني والمقالح وأحمد قاسم دماج وعبد الحبيب سالم وشحرور ومطهر الإرياني وغيرهم، نتحدث عن مثقف تحركه هموم وطنه وطموحات مجتمعه ورغبته في تحرره وتنوير وعيه، والوقوف مع فكرة الدولة لا القبيلة، وترسيخ قيم المدنية والمواطنة لا الجهوية والشعبوية، فكانوا شعلات تنويرية ومشاريع نضالية استطاعوا أن يغيروا الواقع السياسي والثقافي، وفرض تصوراتهم وآرائهم بشأن القضايا المصيرية المهددة للمرتكزات الوطنية وأعمدة استمرار العملية السياسية بصورة تضمن حرية الرأي والتعبير وتوفر المناخ الديمقراطي.
لقد خدعنا بمثقف مزيف ظل يتمظهر بوطنيته واستنارته وما إن عادت أذيال الكهنوت كان سباقاً لاحتضانه وترويج أفكاره، خدعنا بأحمد سيف حاشد كمناضل حقوقي وسلطان السامعي كمناضل سياسي وعباس الديلمي كمثقف إبداعي، وصلاح الدكاك ككاتب صحفي وسامي عطا كفيلسوف أكاديمي، نماذج كثيرة جعلتنا نعيد غربلة تصورنا عمن هو المثقف وماهي ملامحه.
لأنه كان أكثر من خذل مجتمعه اليوم، وتاه في تناقضاته فتلاشى وجوده، وسجل مواقفاً مخزية في انحيازه للجانب السلبي وبذل طاقته في تأييد الوهم على الحقيقة، والاستبداد على الحرية، للدرجة التي جعل المجتمع يزدري وجوده ويمقت حضوره المنفصم عن المخاطر التي تمزق شعبه وتهدر كرامته وتستلب قوته وهو يهذي مبرراً ومتعاطفاً مع الجلاد والحاقد والواهم والمنتقم والمرتزق.