- الشركة اليمنية للغاز تؤكد تغطية احتياجات السوق المحلية وتدعو لمراقبة الطرق والشواطئ
مات الشيخ ولم يعاتبني
كتابنا| 19 فبراير, 2025 - 4:40 م
اختلفت أم اتفقت معه، كان أحد الأعمدة المنتصبة بين ثلاث مديريات: التعزية، شرعب السلام، شرعب الرونة. الحشد الكبير في جنازته في تعز؛ يؤكد امتداد تأثيره إلى معظم المديريات، ومنها مديريات في محافظة إب. أتحدث عن شيخ بلادنا سلطان شداد، الذي وافته المنية بتاريخ 25 يناير الماضي.
كان واسع العلاقات، وقد تمكن في السنوات الأولى من الحرب من الاتصال بالقيادي البارز في حزب الإصلاح الأستاذ محمد قحطان، المعتقل لدى جماعة الحوثي، بطريقته استطاع سلطان شداد إجراء حديث هاتفي مع السياسي المحنك الذي تجمعه به صداقة قديمة. سمعته يتحدث عن المكالمة، قال بأنه عرض على قحطان محاولة التدخل مع الحوثيين لإطلاق سراحه، قحطان رفع صوته رافضاً الفكرة، قال الشيخ ضاحكاً، ربما لأنه يدرك أن الحوثيين لن يستجيبوا لمحاولات الشيخ إذ لا علاقة لاعتقاله بالجانب الاجتماعي، إضافة لأنه يعرف أن الحوثيين لا يحترمون مشائخ اليمن ولا مكانتهم.
رغم الحضور الكثيف في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، خلت مراسيم الجنازة من الشعارات الطائفية. المظهر الجنائزي المهيب في الخاتمة عَبَّر عن الدور الذي كان يسعى إليه الشيخ بعد الأشهر الأولى من الحرب: مصلحاً لا يرفع شعار طرف. هذا هو المكان المناسب الذي يملؤه الشيخ الحكيم: أن يكون مرجعية في الصلح بين الأطراف المتنازعة لا أن يكون طرفاً. في القضايا التي يكون فيها سلطان شداد طرفاً، لن تستطيع أي قوه أن تثنيه عن موقفه. ابن منطقتنا ونعرفه حتى من القضايا الداخلية الصغيرة.
الشيخ لم ينكسر حتى وهو في السجن، أمام مسؤولين وشخصيات لها ثقلها، وقلاع من أقاربه أو من الأباعد، وحتى أمام المشرفين الحوثيين. لم يكن يخشى المواجهة في القضايا التي تعامل معها؛ لم يكن يهمه أن يواجه قبيلة عتيدة أم إنسان عادي. وكان قيلاً من أقيال البلاد، إذا حصلت مشكلة تستدعي التحشيد، دعا فلبت المخلاف من طرفها إلى طرفها، حتى من يختلف معه والحانق منه.
ورغم صفات القوة التي يتمتع بها الشيخ سلطان وطبعه العنيد، فقد كان متواضعاً للغاية، لا أعتقد أن شخصاً بمكانته الاجتماعية وصل إلى الحد الذي وصل إليه الشيخ سلطان شداد من التواضع مع الكبير والصغير، الجاهل والمتعلم، من بينه وبينهم خلافات والمتمصلحين. وكان بسيطاً للغاية مع الناس، إذا جلست معه سيحدثك ببراءة عن المواقف والذكريات التي حصلت له بما في ذلك المواقف التي ليست لصالحه، وسيصرح لك بالحكمة التي جعلته يتصرف على ذلك النحو في قضية من القضايا أو مشكلة من المشاكل.
وكان للشيخ طريقته في العتاب أو التعبير عن الزعل من شخص ما: إذا جئت للسلام عليه، يغالط بانشغاله بشيء ما حوله، وأذكر أنه في 2011، لم يكن مع الخروج ضد علي صالح، ومع ذلك لم يتخندق معه، في تلك الفترة كتبت مقالاً ساخراً عن أناس جواره وعرجت عليه، بحدة. حين انطلقت ثورة الشباب في 2011 كنت قد وضعت الخطوات الأولى في بلاط صاحبة الجلالة: الصحافة. كيف بأناس من أبناء منطقتي يقفون ضد الثورة؟. لا أذكر ماذا كتبت؟ ولكن بلا شك، وصل المقال إلى ديوان الشيخ. وقتها اتصل بي الشهيد عاصم شداد وهو يضحك: الشيخ خبأ الجريدة بين البصائر.
كنت أقول في نفسي، ليت ما قاله عاصم، مزحة. ذلك أن الشيخ يلتقط أكبر كم من التفاصيل والأحداث لجميع الأشخاص في البلاد. يستخرج من ذاكرته الواسعة تلك التفاصيل عند الحاجة. كيف وقد دخلت ذاكرة الشيخ وصندوق البصائر بذلك المقال العجيب والطائش.
ذات يوم، كنت على كرسي الحلاقة وحمزة بن خالي عبدالواسع شداد في انتظاري. وقتها اتصل محمد سلطان بحمزة وظلا يتحدثان لبعض الوقت. قبل أن يعاتبني محمد ضاحكاً: الله المستعان، هو احنا إلا اخوالك.
منذ دخلت الصحافة، لم أنتظر أي ردة فعل تجاه من تناولتهم المواد الصحافية، لا من مسؤول أو شركة، لا من فاسد أو صالح. أقول كلمتي وأمشي، الانتظار الوحيد كان انتظاري لعتاب الشيخ أو تلميحه لما يشير بأن مقالي في صندوق البصائر.
*
عندما كنت طالباً في المدرسة، كنت كلما استيقظت من النوم أخرج إلى ركن بيتنا وأفرك عيوني لأرى إن كانت سيارة سلطان، قد وصلت أم لا. كان سلطان هو مدير المدرسة طوال السنين التي درست فيها. ورغم مشاغله، كان يحضر قبل انطلاق الطابور، يعاقب المتأخرين، ويتأكد من حضور المدرسين. وفي الحصة الأولى يتفقد طلاب المدرسة فصلاً فصلا. كان يحضر في ذهني كمدير للمدرسة، لا بصفته شيخاً للبلاد، وهذا ما يضاعف شعوري بالخجل.
*
مرت السنوات، وكنت إذا عدت من صنعاء إلى البلاد وذهبت إلى مكان يتواجد فيه الشيخ سلطان، أسلم على الناس بارتباك، كلما اقتربت منه أتخيل بأنه سيعاتبني الآن، لن يسلم عليْ، سيغالط بإصلاح المخدات. يمد يده، فأحمد الله، أجلس متجهزاً للإحراج وعتاب الحديث عن المقال وأجهز الردود: سأقول له بأن موقفي هو موقف ولده الكبير، المحامي القدير عبدالله وأرمي بالمقال إليه بوصفه النموذج المؤثر بالنسبة لنا، بحكم الفترة الزمنية الأقرب لظهور أواخر النماذج التعليمية من مدرستنا. لا. لن يضحك الشيخ. الرد لا يصلح. الأفضل إذن الرد بالحديث عن حرية التعبير. هذا أيضاً غير مناسب. تطغى ذكريات المدرسة وأقول في نفسي: سأعتذر وخلاص. وفي النهاية، يغادر سلطان وكأن المقال لم يُكتب.
ترددت على منزل الشيخ. أجلس بالقرب منه وأنا منتظر العتاب. ذات يوم سألني عن العمل في الصحافة، تعرقت في عز الشتاء، شعرت بأن دوري في العتاب قد حان. أجبته باختصار، فاكتفى بالتعليق: «تمام انه في ناس من بلادنا دخلوا الصحافة».
ثم ندخل عالم الحكايا والمواقف الظريفة حول أيام زمان. أو أوضاع البلاد في ظل الحرب. ومثلما لم نتفق على ثورة 2011، لم نتفق حول الحرب. لكني هذه المرة، قد تعلمت الدرس، ما زلت أنتظر العتاب حول مقال الثورة، ولذا كنت أناقشه بصدق أيام الحرب، في الجلسات القليلة التي حضرتها، كنت أقرأ التحليلات الطويلة التي تثبت الحق لنا اليمنيين. في بداية الحرب نظر الشيخ إليها بعقلية اجتماعية نظيفة غير مدرك لجذورها التاريخية وأبعادها. بعد ذلك كانت نظرته تتغير تدريجيا. لم يكن يتوقع أن تطول الحرب كل هذه السنوات؛ كان يشعر بأن تقديراته قد خابت وتجاوزت حساباته بكثير، ومثل أي يمني، خسر سلطان في الحرب الكثير. ومع ذلك لم يتوان أولاده من تقديم أدوار اجتماعية وإنسانية مهمة، ليست على مستوى المنطقة، وإنما البلاد، كما يفعل المحامي عبدالله سلطان في ملف الأسرى والمعتقلين.
أكثر من خمس سنوات لم أخرج منها من المنطقة بسبب الحرب. المساحة التي كنت أتحرك فيها لم تكن تتجاوز خمسة كيلو متر مربع. لكنها كانت كافية لأرى سلطان هنا وهناك. وطوال هذه السنوات، كنت كلما رأيته، يعيش داخل مشاكله ومشاكل الآخرين، قفز أمامي المقال الراقد بخزانة البصائر وأنتظر العتاب، وأترحم على صاحبي عاصم الذي استشهد في الحرب قبل أن أتأكد: هل الشيخ احتفظ بالجريدة أم كان الأمر مزحة؟
في 2020 غادرت المنطقة لأستقر في المدينة.. كنت أحمل شيئين: حيرتي هل مازال الشيخ يحتفظ بمقالي في صندوق البصائر. متى يعاتبني لأعتذر له؟. وتفاصيل تأسيس المدرسة التي درست بها ويعمل أبي فيها.
تفاصيل المدرسة التي تأسست في السبعينيات كشفت لي أن الشيخ سلطان كان عنيداً منذ الصغر. وكم كان هذا الطبع رائعاً حين يتم تسخيره لخدمة الناس ومصالح البلاد كتأسيس مدرسة أو توصيل الكهرباء.
لم يكن سلطان قد تجاوز سن الثلاثين، عندما قرر العمل على تأسيس مدرسة حكومية في المنطقة، هي مدرسة بن معاذ بن جبل. كان ذلك في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي، وتم إنشاء المدرسة على عدة مراحل، سمعت الشيخ سلطان يذكر تفاصيل التأسيس، ويتذكر الرجال الذين وقفوا بقوة إلى جانبه في ذلك الوقت، يذكر رجلين مهمين، الأول: الأستاذ خالد محمد سعيد، مدير مكتب التربية والتعليم حينها، والثاني هو الشيخ عبدالله علي سرحان، رحمهما الله.
يتذكر سلطان، تجميع الطلاب، أماكن جلوسهم تحت الأشجار، بما في ذلك "الطولقة" الكبيرة التي كانت بعيدة نسبيًا عن مكان المدرسة، والاستعداد لاستقبال اللجنة الحكومية في المنطقة لترى ما إذا كنا بحاجة إلى مدرسة أم لا، ورغم التجاذب وبعض الخلافات التي حصلت بين أعيان العزلة، والتي كادت أن تجعل اللجنة تغادر وتقرر عدم بناء المدرسة، إلا أن إصرار الشيخ واستحضاره للشواهد والمبررات، جعل اللجنة تعزف عن قرار المغادرة وتوافق على التأسيس، بعدما حل سلطان مشكلة الأرض، في ساحة على أرضه، وأثبت وجود عدد الطلاب الذين يحتاجون إلى فصول ومعلمين تمنحهم الحكومة رواتب رسمية. وحين سألته اللجنة عن اسم المدرسة التي كان طلابها يدرسون تحت الشجر قبل إقرارها، لم يكن للمدرسة اسم، لكن الشيخ رد بسرعة بديهة: معاذ بن جبل.
من هذه المدرسة، تخرج الدكتور والمهندس، الضابط والطيار، المحامي والأستاذ، كلهم صنعوا ذكرياتهم هنا، وجدوا واجتهدوا، لم يكن المدير يتهاون مع أي طالب، إذ مازالت مواقفه تروى كيف منع طلابًا أبناء مشائخ وغير مشائخ من اللعب في الدراسة، وشخصياً، أذكر في زمني، كيف ضرب ابنه زائد، أمامنا في المدرسة ولم يتمكن أن يوقفه أحد غير ابن عمه، جدي محمد قاسم شداد، شفاه الله وعافاه.
درست أنا في هذه المدرسة المتواضعة ذات الذكريات الكبيرة، لم أكن من الذين حصلوا على المعدلات الكبيرة، لكني امتلكت النسبة الكافية لأدخل المجال الذي أجد نفسي فيه: الكتابة. وكان الشيخ المدير، من أوائل الأشخاص الذين لمحت لهم بشيء من الإساءة عند دخولي عالم الصحافة.
قبل أن يموت، كان قد أوصى بشيء للمدرسة، ومساحة لمشروع جامعي سيستفيد منه طلاب وطالبات المنطقة..
وقبل موته، كنت في انتظار عتابه لأعتذر له وأنهي هذا الانتظار..
من المؤسف أنه رحل ولم يعاتبني أو يلمح تلميحا أن الجريدة في صندوق البصائر. وسواء كان الموضوع مزحة من صاحبي عاصم أم حقيقة، فأنا أعتذر الآن لاثنين: سلطان، وصديقه الذي كان يجلس بجواره دائماً: أحمد سعيد.
مقالات ذات صلة