تعز.. النازحون في "موزع".. الهروب من كابوس القذائف إلى شبح الجوع وقسوة الطبيعة وجحيم الإهمال

[ يفر النازحون في مديرية "موزع"- ريف تعز الغربي- من شظايا الموت إلى شبح الجوع والإهمال ]

 قبل ثلاثة أعوام وصل أحمد سالم (70 عاما) إلى عزلة "العوشقي" بمديرية موزع (غرب تعز)، هربا من شظايا القذائف التي كانت تنهال حينها على منازل قريته "الكاذية" المتاخمة لمديرية مقبنة حيث تستعر المواجهات العسكرية هناك..
 
ربما تمكن "سالم" من إنقاذ أسرته من كابوس التعرض لقذيفة طائشة، حين نزح بهم إلى شعاب منطقة "الغلة" بالعقمة، حيث أناخوا أجسادهم المتعبة هناك تحت ظل شجرة وارفة أتخذوها سكنا جديدا لهم؛ غير أن تلك الشجرة عجزت أن تقيهم من تقلبات الطقس المُهلكة، أو شبح الجوع المتربص بهم على الدوام، وسط ظروف إنسانية صعبة لم يقدروا على مواجهتها، إلى جانب 25 أسرة أخرى فرت معهم من الموت إلى براثن المعاناة الدائمة..!!
 

أرقام في العراء

 يقدر رئيس الوحدة التنفيذية للنازحين في مديرية موزع، صالح الروضي، لـ "يمن شباب نت"، عدد النازحين في مديرية "موزع" بما يزيد عن 2,000 نازح؛ نزحوا من مناطق مختلفة، أهمها: مقبنة، والمعافر، والحديدة. وبشكل عام، يتوزع هذا العدد على 14 مخيما، تتواجد في ثلاث عزل، منها: عزلة "العوشقي" التي تحتضن 10 مخيمات نزوح، بينما تحتوي عزلة "الأهمول" على ثلاثة مخيمات، ومخيم واحد في مركز المديرية.
 
ويعيش أغلب النازحين، في هذه المخيمات في ظل ظروف إيواء صعبة، تنعدم فيها أبسط الخدمات، كما تفتقد لأبسط الاحتياجات الأنسانية. حيث تتنوع ظروف إيوائهم، ما بين العيش: تحت الأشجار (في العراء)، أو في بيوت مصنوعة من "القَشّ"، أو في مساكن حجرية صغيرة وبسيطة استحدثوها بأنفسهم في مواطن نزوحهم..!!
 
وتضع الأمم المتحدة النازحين من الأطفال والنساء، في خانة الفئات الأكثر تضررا ومعاناة؛ وتؤكد تقارير منظماتها العاملة في اليمن على أن هاتان الفئتان تشكلان "75 في المائة من إجمالي عدد السكان النازحين" في البلاد بشكل عام. (تقرير: النظرة العامة للاحتياجات السكانية- فبراير 2021)
 
 

نازحون تحت ظروف قاسية

على سرير متهالك، تحت ظل شجرة "المريمر" الكثيفة في موزع، أتخذ "سالم"، له وأسرته، سكنهم الجديد في إحدى زوايا مخيم النزوح في عزلة "العوشقي". غير أن هذا الذي يطلق عليه مجازا بـ (السكن) ما كان له حتى أن يقيهم من لهيب حرارة أشعة شمس الصيف الحارقة، أو من برودة الشتاء القارسة، ولا من هجمات البعوض المتفشي هنا بكثرة، والذي وجد من سكان المخيم، لا سيما الأطفال، فريسة سهلة، لينال من أجسادهم العارية والمنهكة. وتزداد المأساة اتساعا في ظل انعدام الدواء المنقذ أو الغذاء الكافي الذي يقيمون به صلبهم..!!
 
إلى جواره، يقبع "عمر زيد"، النازح من بلدة "البرادة" بمقبنة، والذي كان يتحدث بصوت يشبه الآنين حول سوء أحوال النازحين في هذا المخيم البعيد والمنسي من قبل السلطات المعنية والمنظمات الانسانية..!!
 
حيث يؤكد زيد لـ "يمن شباب نت" أن النازحين هنا "لا يحصلون حتى على المواد الأساسية، من زيت وسكر ودقيق"، حتى أنه يعتقد أن معظم من في المخيم "ربما يعيشون على وجبة واحدة فقط طوال اليوم..!"
 
وحيث أن هذا الوضع المزري، والإهمال من الجهات المعنية، من شأنه أن يفرض على سكان المخيمات محاولة الاعتماد على جهودهم الذاتية في كسب الرزق، غير أن صعوبات جمة حالت كثيرا دون نجاح الكثير منهم، بسبب الظروف الطبيعية القاسية والأجواء غير المواتية في المناطق التي تتواجد فيها مخيمات النزوح..
 
وعلى سبيل المثال؛ فإن مهنة رعي الأغنام، التي تشكل مصدرا رئيسيا للدخل وتوفير الغذاء بالنسبة لمعظم أبناء المنطقة، لم يكن باستطاعة النازحين الاستفادة منها كثيرا، بسبب بعض الظروف السيئة التي واجهتهم. إذ يؤكد "زيد"، أن الكثير منهم "فقدوا معظم ماشيتهم نتيجة دخولها للرعي في مناطق تشتعل فيها المواجهات العسكرية، ما جعلهم غير قادرين على جلبها"، مضيفا "في حين تسببت الأمطار الأخيرة والسيول الجارفة في فقدان بعض الماشية، أيضا"، وبالتالي فإن معظم النازحين هنا- وفقا لزيد: "خسروا أهم ثروة كانوا يعتمدون عليها في حياتهم".
 
 
تضرر فرص الاعتماد الذاتي
 
يعتبر إنتاج وبيع الجبن البلدي أحد المهن التي تشتهر بها المنطقة، ويعد "الجبن العوشقي" هو الأكثر شهرة في محافظة تعز كلها. ويتم صناعته وإنتاجه بوسائل بدائية بسيطة تستخدم فيها الأغنام كمصدر رئيسي، ليباع كوجبة غذائية على نطاق واسع، داخليا وخارجيا.  
ولكن؛ لأن صناعة هذه الأجبان تعتمد بدرجة رئيسية على الأغنام، فإن كثير من النازحين "لم يعد بمقدورهم الاعتماد على هذه الصنعة كثيرا، بعد أن فقدوا معظم ثروتهم الحيوانية"، كما ذكر زيد، الذي يضيف أيضا سببا آخر، وهو "شحة الامطار مؤخرا"، فهذا الأمر "أثر بدوره كثيرا على الماشية المتبقية لدى النازحين في إنتاج الجبن البلدي".
 
ويشارك النازح "أحمد سالم"، الحديث عن هذه المهنة (صناعة وإنتاج الجبن البلدي)، من حيث أنه يؤكد على أن "توفر الجبن البلدي يعتمد كليا على المراعي".. موضحا: "فإن كان الرعي (أي ما تتغذى عليه الأغنام) متوفرا بشكل جيد، والأمطار مستمرة، يكون الانتاج أفضل وغزير"، مضيف: "كما أن الأمر يعتمد أيضا على نوع وكمية الثروة الحيوانية التي يمتلكها النازحون".
 
في النهاية، يخلص "سالم" إلى ما ذهب إليه رفيقه "زيد"، من أن الجفاف الذي شهدته المنطقة مؤخرا، "تسبب في إضعاف قدرات النازحين على صناعته الجبن البلدي بشكل كبير، وتراجعت إنتاجيتهم إلى كميات ضئيلة جدا" لا يكاد يعول عليها. وفي حال استمر هذا الجفاف لفترة زمنية أطول- وفقا لتوقعه: "فقد يؤدي ذلك إلى إيقاف إنتاجه كليا"..!!
 
 

تجاهل واستسلام
 
مشاكل النازحين ومعاناتهم في معظم مخيمات النزوح، وفي مخيم "العوشقي" تحديدا، لا تقتصر على انعدام الغذاء، وصعوبة توفير لقمة العيش بشكل ذاتي، بل تشمل أيضا تأثيرات عوامل الطبيعة القاسية، التي هي الأخرى لم ترحم النازحين الذين يعيشون وسط العراء دون حماية من تقلبات الطقس طوال العام..
 
ويعبر النازح "زيد" عن هذا الحال قائلا: "حتى الطقس هنا، لا يرحمنا.. تعبنا من تقلباته، فبالكاد نخرج من برودة الشتاء القارس، لندخل في معاناة أخرى مع حرارة الصيف وشمسها الحارقة..!!".
 
ويشكوا كثير من النازحين من عدم وجود اهتمام: "لا من السلطات، ولا حتى من منظمات الإغاثة الإنسانية، تجاه النازحين في مخيمات النزوح..!! كما يؤكد النازح زيد. ومع ذلك، فرضت تلك الظروف القاسية على البعض مواصلة انتظار "إحسان" منظمات الإغاثة الإنسانية، حتى وإن لم يعد لها وجود منذ فترة طويلة، ومن المرجح أنها قد لا تأتي أبدا..!!
 
وبحسب رئيس الوحدة التنفيذية للنازحين في مديرية موزع، صالح الروضي، لـ "يمن شباب نت"، فإن "750 أسرة، في المخيمات الـ 14، يعيشون ظروفا إنسانية مزرية؛ من حيث انعدام الغذاء والايواء والدواء، وعدم كفاية الدعم المقدم لهم"، مؤكدا في الوقت ذاته "أن المديرية استقبلت خلال الاسابيع الماضية 60 أسرة نازحة من مناطق في الحديدة وتعز"، الأمر الذي يزيد من أعباء النزوح، ويقلل من فرص الإنقاذ والعون.
 

إصرار في وجه الموت

لكن؛ وفي مقابل ذلك، ثمة نازحون كثر، ممن يقدرون على الحركة والعمل، ما كان لهم أن يستسلموا ويرهنوا مصيرهم بانتظار "فتات" مجهول، طال انتظاره كثيرا؛ بل لجأوا إلى شق طريقهم بحثا عن أعمال أخرى تساعدهم على كسب رزقهم وإعالة أسرهم، وإن كانت بطبيعتها مهن شاقة..
 
ويذكر "زيد" أن كثيرا من النازحين باتوا يعملون مؤخرا "في انتاج الفحم، ونسج الأشجار، من أجل الحصول على لقمة العيش". وهي مهن شاقة تتطلب الكثير من الجهد، في حين أنها لا تدر عليهم أرباحا كبيرة، لذلك- وفقا لزيد أيضا: "اضطر بعضهم إلى إبقاء اطفالهم بعيدا عن المدارس للعمل معهم ومساعدتهم في توفير لقمة العيش"، بالنظر إلى أن هذه المهن لا تغطي كافة متطلبات حياتهم البسيطة..!!
 
وهو ما عززه أيضا، رئيس الوحدة التنفيذية للنازحين في المديرية، صالح الروضي، الذي أكد على أن الأوضاع المزرية التي يعيشها النازحون اليوم، فرضت عليهم خوض محاولة "الاعتماد على أنفسهم، من خلال مهن بيع الجبن والفحم، لتلبية بعض من متطلباتهم..". وإن كان ذلك- كما يقول- يأتي على حساب تعليم أطفالهم الذين أوقفوا دراستهم لمساعدة أباءهم في تلك المهن التي تتطلب جهدا مضاعفا للحصول دخل مناسب يبقي الأسر النازحة على قيد الحياة.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر