الأخبار
Image Description

دعاء الزمر

مذكرات جار الله عمر.. الرجل الذي "يأبى أن يغيب"                                                           

‫كتابنا‬| 9 مارس, 2025 - 8:33 م

  في يناير الفائت (2025) كانت وفاة الشاعر د. سلطان الصريمي. تداول مهتمون ومواقع أخبارية كثير من نتاجه الشعري والغنائي، الذي لم يسبق لي أن اطلعت عليه بهذا القرب والكثافة. وهنا يتفرد وجود الشاعر والأديب والمفكر عن سواهم من الناس، حيث يكون غيابهم نوع من أنواع الحضور ولحظة رحيلهم انبعاث آخر وخلود مستدام.

من بين ما آثار انتباهي وإعجابي من جملة نتاج الشاعر الصريمي، قصيدة رثاء للسياسي الراحل "جار الله عمر" بعنوان "جار الله القلب والنور". كم حوت هذه الرثائية من معاني جليلة، وكثافة رمزية، وتعبير عن حزن شامخ يشبه من قيلت فيه..

"هذا جار الله يأبى أن يغيب

وزّع القلب على كل القلوب

قبل أن يخترق الصدر الرصاص

وزّع النور على كل البلاد

قبل أن يطبق في الأرض الظلام"

ما فعلته رثائية الصريمي يتطابق مع ما قال عنه الكاتب يوسف إدريس: "أن تؤلف كتابًا، أن يقتنيه غريب في مدينة غريبة، أن يقرأه ليلًا، أن يختلج قلبه لسطر، ذلك هو مجد الكتابة"..

ومن هنا، في ليالي ثلجية، في مدينة غريبة، اختلج قلبي لقصيدة، فقررت أنه يتوجب علي أن أتعرف أكثر على ذلك الرجل الذي "يأبى أن يغيب"، وأن أطلع على تجربة سياسية من زاوية "موضوعية ذاتية"، لعلها تسهم مع شواهد أخرى في إعطاء صورة كاملة لتاريخ اليمن السياسي، المليء بالتناقضات والنزاعات والاختلالات.

شرعت في قراءة مذكرات جار الله عمر "الصراع على السلطة والثروة في اليمن"، آملة أن استوعب بعضا من أحداث الماضي والتاريخ السياسي القريب الذي لازال يؤثر ويلقي بظلال مباشرة على وضعنا السياسي البائس.

أتناول في هذه المساحة بعضا مما استوقفني في هذه المذكرات:

افتتح محرر ومقدم المؤلف، الكاتب فواز طرابلسي صديق جار الله، شهادة عنه بقوله: "جسّد جار الله بالنسبة لي الأبرز والأجمل من خصائص شعبه: النبل والتواضع، الجرأة والتسامح، التشدد في المبادئ والمرونة في مسارات تحقيقها، فضلا عن ذلك المزيج المميز من الدهاء والصدق الذي يكتشفه فيه جميع الذين عرفوه"

شيء مألوف أن يمتدح صديق خصال صديقه، ولكن أن يصل المرء لمستوى في إشعار الآخر أن محاسنه وميزاته ليست خصيصة نفسه فقط، وإنما انعكاس لصورة شعب وجزء من تكوينه الأصيل، فهذه درجة سامقة من التأثير تتجاوز الواحد وتجعل منه ممثل لشعب، ولحسن الحظ أن كان جار الله وثيقة حيّة تدل علينا.

بدايات وتحديات:

ما يمكن أن يلخّص حول نشأته الأولى، أنه تيتّم قبل أن يولد، تولت أمه تربيته وإبراز أبيه كنموذج وقدوة يتوجب أن يحتذي به في العلم والشجاعة والأخلاق. لذا استشف أن هناك بذرة طيبة أو مرؤة أصيلة ونموذج عالي، ظل في مخيال جار الله، شكل طباعه ومساره قبل أن يتشرب علوم ومعارف عدة من الكتب المتنوعة والصحبة الواسعة والمؤثرون في دربه الطويل.

أما عن مراحل تعليمه، بدأت كالعادة في معلامة القرية ومدارس ذمار ثم ذهابه الى صنعاء، صانعا قدره على طريق تحصيل العلم، وككل من يمضي وحيدا وعنيدا يلقى من الصعاب ويلقي الله في دربه ما يكفي من التساهيل. هناك انضم للكلية العسكرية وشهد أواخر العهد الأمامي حيث شارك في المظاهرات الطلابية التي سبقت الثورة السبتمبرية عام 1962.

انخرط باكرا ضمن حركة القوميين العرب، التي برزت بعد الثورة، وكان له فيها مشاركات نشطه وحضور فاعل، مكّنه أن يطلّع ويتعرف عن قرب على مجريات الأحداث وصانعيها شمالا وجنوبا، قبل أن يكون أحد السياسيين البارزين لاحقا، كعضو في اللجنة السياسية للحزب الاشتراكي، ثم أخيرا الأمين العام لذات الحزب.

تجربة السجن:

هذه التجربة، التي قادته إليها أحداث الانقلاب على الرئيس السلال في عام 1967، صقلت شخصيته وأكبرت خبرته الحياتية، حيث جمعته مع قادة وعسكريين وأدباء، بالإضافة إلى أفراد عاديين، مما سمح له أن يتدرب ويحاكي الأكثر خبرة، في حين يمارس دور قيادي ومسؤول مع الأفراد الآخرين.

مشاكل السجناء واختلاف طباعهم أظهرت سلوكه الحكيم والصبور وميوله لحل كل الخلافات بالنقاش والسياسة، كما يقول: "كنت أقوم بدور التوفيق والصلح بين المساجين. أنا الأنحف من حيث بنيتي الجسمية، لذا كان لازاما أن أحل مشكلاتي شفويا بالنقاش والسياسة. هذا من بين عوامل سيكولوجية أخرى كانت سبب في قبولي اللجوء إلى السلم".

السجن أيضا كان فرصته ليتفرغ تماما للقراءة والاطلاع المتنوع، الذي مكنه فيما بعد من ممارسة السياسة عن خلفية معرفية جيدة.

في ظل الحديث عن ميوله للسلم والسياسة ورفضه للعنف، قد يخطر تساؤل: ماذا عن مشاركته في الكفاح المسلح من الجنوب، بعد خروجه من السجن، ضد الشمال؟

يذكر انه كان هناك تأثيرا للأفكار "الجيفارية" و"الماوية". بالمقابل هناك حملات عسكرية ترسل من صنعاء لمهاجمة وإعدام كل من تشتبه بمشاركته في الكفاح المسلح، لذا لا مجال لموقف وسط.

من الناحية الأخلاقية؛ فهو لا يندم على ذلك؛ لأن الطرف الحاكم في صنعاء كان ممسكا للسلطة بالقوة، وقد صفى معارضيه في أحداث أغسطس 1968 بوحشية. رغم ذلك، يجد أنه لم يكن خطا سياسيا صائبا للاستيلاء على السلطة.

الصراع على السلطة وغياب التعددية أساس النزاعات:

سلسلة الانقلابات والاغتيالات المتوالية التي ظهرت في صف الجمهوريين في الشمال من بعد الثورة، أو الاقتتال والنزاع المتكرر بين رفاق الحزب الواحد في الجنوب، كلاها يعدها جار الله "صراعا على السلطة"، وفي الحروب الأهلية، كما يقول؛ لا يوجد طرف منتصر، الانتصار كان وهما وقد اتضح أن الجميع مهزومون.

شكلت أحداث 13 يناير 1986 بعدن، التي اقتتل فيها رفاق الحزب الاشتراكي، منعطفا مهما للحزب وللمجتمع اليمني ولفكر جار الله، ودعته لإعادة التقييم والتفكير في أسباب تأزم الوضع السياسي وتفجره الدائم؛ فيجد أن انعدام الديمقراطية وعدم الاعتراف بالآخر هو المعضلة: "لم يكن هناك تعود على الحلول الديمقراطية، ولم تكن هناك تجربة لتداول السلطة داخل الحزب والمجتمع، ولا يستشار الشعب، ولا القواعد الحزبية. كان التغيير يتم عن طريق النخبة القيادية وأحيانا عن الطريق العنف"..

كان جار الله سباقا لفكرة "التعددية الحزبية"، التي بدأها كتعبير عن وجهة نظر في الندوات والحوارات. ثم أخذت طريقا جديا وقوبلت بالهجوم والتجريم في الشمال من الرئيس "علي عبد الله صالح" شخصيا، لكن الهجوم كان في عدن أكثر قساوة، حيث اتهم أنه يجر البلاد إلى الخراب.!!

جاءت الوحدة اليمنية بعد مشاورات واتفاقيات عدة لتكون حلا ينهي زمن من الإحتراب بين الشطرين، لكن ذلك لم يلبث إلا قليلا لتقوم حرب أخرى في 1994 باسم "حرب الوحدة"، اتخذ جار الله موقفا محايدا منها، إذ أنه كان ضد حرب الشمال على الجنوب، وضد إعلان الانفصال كمبرر لها، فاختار المنفى على المشاركة فيها، فيما اختار طرفي الحرب تخوينه لعدم الانحياز.

في حدثيه عن الخلافات المصاحبة لإعداد النظم والقوانين في مرحله ما بعد الوحدة، والتي أدت- مع غيرها من الإشكالات- إلى تعاظم الفجوة بين رجلي الوحدة: علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض. لعل من الطريف ذكر أن إحدى عناصر الاختلاف كانت حول قطع يد السارق وإقامة الحدود الشرعية في المجتمع، وهذا يوضح مدى هشاشة العلاقة بين الطرفين، مع الاستحواذ وفرض الهيمنة من قبل علي صالح، وهكذا "نشبت الحرب المؤسفة من دون أي ضرورة لها" حسب تعبيره.

العودة من المنفى إلى النضال السياسي:

تقول الباحثة الأمريكية "ليزا ودين"، التي حاورته في هذه المذكرات، إن جار الله كان مسكونا بالسؤال السياسي اليومي: "ما الذي علينا أن نعمل؟!". ولعل هذا ما دعاه للإسراع في العودة من المنفى بعد حرب 94 للعمل الحزبي والنضال السياسي المدني من داخل البلد. الأمر الذي أثمر عن إقامة المؤتمر العام الرابع لإعادة بناء الحزب الاشتراكي عام 2000، ثم المساهمة الفاعلة في تأسيس "اللقاء المشترك" في فبراير 2003 كإطار جبهوي موحد يجمع أحزاب المعارضة اليمنية.

وأثناء إلقائه كلمة الحزب في مؤتمر "التجمع اليمني للإصلاح"، كانت اللحظة الأنسب لإطلاق رصاصة غادرة هدفت لإنهاء حياته، والشراكة السياسية للمعارضة، في آن واحد.

المذكرات جمعت فصولا مهمة ومحطات حاسمة في التاريخ السياسي لليمن، الذي ما تكاد تقف حروبه حتى تستأنف من جديد، كأنه قائم على فوهة بندقية. لذا يجد القارئ نفسه مستشعرا مرارة فوات الفرص السانحة، التي كان يمكن البناء عليها لإقامة دولة تليق بالتضحيات الجسام، في ثورتي سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، وما تلتها من حروب لاستعادة وإقامة الجمهورية.

"صالح" الراقص والثعبان:

يعبر "جار الله عمر" في آخر مذاكرته حزنه؛ لأن الدول العربية جميعها تقريبا متخلفة، حسب تقرير التنمية آنذاك، واليمن في ذيل القائمة.

لو أنه يعلم أننا صرنا اليوم؛ ليس فقط متأخرين عن البلدان المتخلفة، بل نحن متخلفون حتى على نسختنا القديمة والعتيقة، التي كنا نحاول الفرار منها والقفز عليها. لا أتذكر متى أخر مرة سمعت فيها عن انتخابات، أو مشاورات، أو مؤتمرات أحزاب، كالتي يستعرضها. وبالطبع تنعكس هذه الرداءة السياسية على الواقع بكل جوانبه. ذلك أن هول الفجوة التي نعيشها حاليا مع دول الجوار والإقليم، فضلا عن العالم، باعثة على الأسى والقلق!

خلصت إلى أن ما صنعه "علي صالح" على مدار حكمه في ثلاثين سنة، لا يقارن أمام ما فعله بعد ذلك بانقلابه مع الحوثيين، حيث مكنهم من أعادة البلاد عقودا إلى الوراء، وذلك عار لا تمحيه السنين، ولا تغفره بطولات تعويضية..!!

ما قبل حرب الوحدة (1994)، أخذ الحزب الاشتراكي نصيبا وافرا من الاعتقال والتشريد والاغتيالات. وفي 2014 عاش حزب الإصلاح ذات التجربة، وكان المستهدف الأول في تحالف الحوثي وصالح، الذي كان راقصا بالفعل، ولكن ليس على "رؤوس الثعابين" كما يدعي، بل كان هو الراقص والثعبان في ذات الوقت. لدغ خصومه، أفرادا وجماعات، وتخلص منهم بطريقة ممنهجة، أدت في أخرها للخلاص منه.

أمام المراحل الطوال التي حوتها مذكرات "جار الله عمر" وتجربته في ممارسة السياسة وصنعها، لا يملك القارئ إلا أن يجله ويُكبره كأحد الرموز الكبيرة والفارقة، التي صدقا "قضت نحبها في خدمة الوطن"..

وكما قال عنه الشاعر الراحل "سلطان الصريمي":

"قرأناك برقا يعانقه الغيث

حين تنوح النفوس العطاش

وسيلا يطوف أخاديدنا الظامئات

يفيض نهارا جهارا اذا أسدل الليل أمواجه فجأة

وفجرا اذل طال ليل الطريق

قرأناك سيفا لكل الخطوب

وسلما يطير كسرب الحمام

سلام عليك.."

مقالات ذات صلة

[ الكتابات والآراء تعبر عن رأي أصحابها ولا تمثل في أي حال من الأحوال عن رأي إدارة يمن شباب نت ]
جميع الحقوق محفوظة يمن شباب 2024