مسلمو صربيا.. تهميش واضطهاد وهدم للمساجد في دولة تُجاهر بعدائها للإسلام

تقترن صورة صربيا في أذهان كثير من المسلمين بتاريخ قديم وطويل من الصراع ضد العثمانيين وبذكرى حديثة هي مجزرة سربرنيتسا الدامية التي قتل فيها آلاف من النساء والأطفال العزل على يد وحدات من الجيش الصربي في البوسنة والهرسك في منتصف تسعينيات القرن الماضي، والتي تعد أبشع مجزرة تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. 

فقد عاش هذا البلد الواقع في مفترق طرق بين وسط أوروبا وجنوب شرقها تحت الحكم العثماني نحو 6 قرون بعد معركة كوسوفو الشهيرة عام 1389، بل عُدّت عاصمته بلغراد -وفق بعض المراجع- هي وسراييفو من "أكبر المدن ومراكز الثقافة الإسلامية في البلقان حتى منتصف القرن الـ19". 

وبدأ الوجود الإسلامي في هذا البلد الذي عمرت فيه المسيحية الأرثوذكسية نحو ألف سنة مع انتصار العثمانيين في معركة ماريتسا عام 1371، التي شكلت نقطة فارقة فتحت للأتراك أبواب مقدونيا واليونان، ثم مهدت الطريق لاحقا لدخولهم صربيا والبوسنة المجاورة. 

لكن مكانة المسلمين في صربيا وفي عموم البلقان تغيرت جذريا إثر حرب البلقان (1912-1913) إذ دشنت بداية مرض الإمبراطورية العثمانية التي تحولت بعد ذلك التاريخ بـ10 سنوات إلى "رجل أوروبا المريض". 
 

خونة ومنشقون

وقد تسبّب هذا الضعف العثماني في هدم كل شيء تقريبا له علاقة بالإسلام والمسلمين في المنطقة، فكانت النظرة إلى المسلمين الصرب على أنهم خونة ومنشقون، وبدأت موجة عاتية من الاضطهاد والقتل والمحاولات لتنصيرهم وترحيلهم قسريا. 

كما تأثر التكوين الديني والعرقي لصربيا بفعل حروب البلقان والحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الأهلية (1992-1995) التي أعقبت تفكك يوغسلافيا الشيوعية، إذ كانت إحدى أهم نتائجها القضاء على أي مشاعر ودية موجودة بين القوميين الصرب والمسلمين، وفتحت الباب على مصراعيه أمام ممارسة السلطات الصربية سياسات عنصرية وجرائم جماعية تجاه المسلمين. 

وبعد أن كانوا يمثلون جزءا كبيرا من المجتمع الصربي، بات المسلمون حاليا لا يشكلون سوى 3.1% تقريبا من مجموع السكان (بين 200 و400 ألف)، في مقابل 85% من المسيحيين الأرثوذكس و5% من الكاثوليك ثم أقليات أخرى من البروتستانت واليهود، يضاف إلى ذلك عدد كبير من الملحدين حيث تظهر دراسات استقصائية حديثة انخفاضا ملحوظا في مستوى التدين لدى عموم السكان الصرب. 

وتشير التقديرات إلى أنه في العاصمة الصربية بلغراد وحدها يعيش حاليا بين 20 و50 ألف مسلم، ويرجح البعض أن يكون الرقم أكبر بكثير. 
 

بوشناق وألبان

ويتكون مسلمو صربيا من قوميتين رئيسيتين هما البوشناق الذين يشكلون ما نسبته 70% من مجموع مسلمي البلد، ثم الألبان (25%)، ويمثل الغجر الروما وإثنيات أخرى نحو 5%. 

وتعيش غالبية مسلمي صربيا، وتحديدا البوشناق (نحو 145 ألفا)، في إقليم سنجق (Sandžak) المعروف باسم "راشكا" لدى الصرب، وهي منطقة تقع جنوب غربي البلاد وتنقسم أراضيها اليوم بين جمهوريتي صربيا والجبل الأسود (مونتينيغرو)، وأكبر مدنها نوفي بازار (Novi Pazar)، أما الألبان فيعيشون في بريشيفسكا دولينا (Preševska dolina) الواقعة جنوبا والمحاذية للحدود المقدونية، ويبلغ تعدادهم نحو 67% من إجمالي السكان المحليين. 

تنحدر أقلية البوشناق من السلالة السلافية، وينحدر الألبان من السلالة الآليرية، ويتحدثون لغتين مختلفتين (الألبانية واللغة الصربية) ولهما تقاليد ثقافية غير متجانسة، لكن المسافة الاجتماعية الفاصلة بينهما ضئيلة جدا بحكم أن الروابط النفسية والاجتماعية بينهما تستمد قوتها من الإسلام الذي يمثل دعامتها الأساسية. 

ويؤكد المسؤول الإعلامي السابق للمشيخة الإسلامية في صربيا، خير الدين باليتش، أن هناك أيضا مسلمين من الصرب يعتنقون الإسلام سنويا لكن ليس بأعداد كبيرة كما الحال في بلدان أوروبية أخرى، وغالبا ما يهاجر هؤلاء إلى مناطق ذات غالبية مسلمة بعد دخولهم الإسلام أو يختارون إخفاء إسلامهم، كما يفعل البعض في بلغراد. 

ويرى الباحث السويدي في علم الاجتماع واللاهوت أندرس باكستروم، في كتابه "الرفاهية والدين من منظور أوروبي" (Welfare and Religion in a European Perspective)، أن البوشناق والألبان يعملون على الرغم من أوجه الاختلاف الموجودة بينهما على الانخراط الفاعل في المجتمع الصربي الذي يعيشون فيه، ويؤكدون التزام مسلمي صربيا بقيم دينهم وأخلاقه التي تحض على نبذ العنف والعيش بسلام مع مخالفيهم في العقيدة والدين.
 

واقع مرير

وفي نوفي بازار على وجه الخصوص، توفر المدينة أجواء مختلفة تماما عن سائر المدن الصربية الأخرى، ففي بلد يفتخر بانتمائه المسيحي الأرثوذكسي تعدّ هذه المدينة ذات الأغلبية المسلمة مكانا متميزا ثقافيا، حيث يمكن سماع الأذان بوضوح ورؤية رجال ملتحين يتجولون في الشوارع، فضلا عن فتيات ونساء محجبات ومطاعم لا تقدم المشروبات الكحولية. 

لكن هذه الخصوصية التي تمكنت المدينة من الحفاظ عليها على مدى قرون ممتدة تخفي واقعا معيشيا مريرا، إذ تعد نوفي بازار وعموم منطقة سنجق من أفقر مناطق البلاد، فلا يوجد بها مطارات ولا محطات قطار وتخدمها طرق سيئة وتحيط بها الجبال ولا تكاد ترى فيها مظاهر تقدم ونماء اقتصادي. 

كما يبلغ معدل الفقر في المنطقة 50% وفق معهد الإحصاء الصربي، وذلك ما يجعلها المنطقة الأكثر حرمانًا داخل صربيا بعدما كانت مركزًا مهما لصناعة المنسوجات، حيث أُهملت مستودعات كثيرة كان يعمل بها آلاف العمال، ولم يفتتح بها أي مصنع كما لم تشهد أي مجهود استثماري يذكر.

وتشير بعض المصادر إلى أنه بسبب البطالة الهائلة وحالة الحرمان والشعور بالإقصاء، أضحت منطقة سنجق في جنوب غربي صربيا أرضًا خصبة "للتطرف"، إذ غادرها عدد من سكانها للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، بعضهم قتل هناك وعاد آخرون إلى ديارهم ليخضعوا للمراقبة من أجهزة المخابرات الصربية القوية التي تعود إلى الحقبة اليوغوسلافية. 
 

معايير مزدوجة

بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردّي، تحول مسلمو صربيا إلى "ضحايا لمعايير مزدوجة"، حسب مفتي الجالية الإسلامية المحلية مفيد دوديتش الذي يذكر أن الصرب في نوفي بازار يشكلون مثلا 80% من قوة الشرطة، على الرغم من أن 80% من سكان المدينة مسلمون، وبعد محاولات متكررة لإرساء نوع من التوازن باتوا يشكلون الآن ثلث هذه القوة تقريبا. 

كما أن تمثيل المسلمين في المناصب المهمة وفي مؤسسات الحكم المحلي في إقليم سنجق والمقاطعات ذات الأغلبية المسلمة تمثيل منخفض جدا، حيث يدير كل الوظائف المهمة في مختلف القطاعات -السياسية والاقتصادية والتعليمية- مواطنون صرب. 

يضاف إلى ذلك أن نسبة المسلمين الذين يحصلون على تعليم عال أو جامعي متدنية جدا، كما يجبر مديرو المدارس في المناطق المسلمة على وضع صورة مؤسس الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، القديس سافا، في كل الفصول الدراسية بما في ذلك تلك التي تضمّ طلابا مسلمين بالكامل. 

ويمكن القول إن المسلمين في صربيا يفتقرون إلى كثير من حقوق المواطنة، حتى إن كلمة "صربي" تعني لدى التيار العام الغالب "المسيحي الأرثوذكسي"، ولا تشمل المسلمين، أي إنها اكتسبت حمولة دينية بدل توصيفها العرقي.
 

عداء دفين

من ناحية أخرى، يسود داخل صربيا جو عام يمجّد العدوان الذي تعرض له المسلمون البوشناق في البوسنة والهرسك في الفترة بين 1992-1995، وما صاحبه من إبادة جماعية كانت الأسوأ على أرض أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. 

ويحيي الصرب ذكرى مذبحة سربرنيتسا تشفّيًا بالمسلمين في صربيا ويصورون القائدين العسكريين المسؤولين عن تلك الفظائع، رادوفان كارادجيتش وراتكو ملاديتش، على أنهما "بطلان قوميان" فعلا ما يجعلهما قدوة تحتذى من كل الصرب في تعاملهم مع مسلمي صربيا البوشناق منهم والألبان. 

كما تتفادى السلطات في هذا البلد معاقبة أي من الأفراد والجمعيات التي تدعو وتحرّض على كراهية ومعاداة المسلمين والإسلام، بل إنها ذهبت إلى حد السماح للبلديات المحلية بإطلاق اسميْ مجرمي الحرب كارادجيتش وملاديتش على شوارع في عدد من المدن الصربية. 
 

هدم للمساجد

أحد الأوجه الأخرى القاتمة للعداء والاستهداف الممنهج للمسلمين من قبل السلطات الصربية يتجلى في هدم المساجد والتضييق على بنائها أو ترميمها. 

ففي الفترة الأولى (1820-1834) من الحملة الصربية على الوجود الإسلامي في المناطق الصربية المركزية هدمت مئات المساجد لإجبار المسلمين على تغيير معتقداتهم ومحو كل الآثار والمظاهر الإسلامية الموجودة بها، ولم يتبق منها إلا مسجدان، هما جامع في بلغراد وجامع في مدينة نيش أُحرقا أيضا في احتجاجات معادية للإسلام في الأعوام القليلة الماضية. 

تلك الحملات أيضا طبعت سياسة السلطات الصربية في إقليم سنجق ومنطقة بريشيفسكا دولينا؛ حيث هُدم عدد كبير من المساجد بخاصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي حتى استقلال كوسوفو عام 2001. 

وفي مدة قصيرة نسبيا شيدت الجماعة المسلمة في صربيا 180 مسجدا في منطقتي سنجق (120 مسجدا) وبريشيفسكو دولينا (60 مسجدا)، ولا يزال عدد المساجد المشيدة في ازدياد متواصل، كما يؤكد فريد موهيتش المتخصص في شؤون البلقان والمحاضر بجامعة القديسين بالعاصمة المقدونية سكوبيا. 

أما العاصمة بلغراد فكانت تضم وحدها حين غادر العثمانيون صربيا أكثر من 300 مسجد، لم يتبق منها اليوم سوى مسجد وحيد نجا من الهدم، هو مسجد "باجراكلي" الذي يعود تاريخه إلى عام 1575. 

وتنقل وكالة رويترز عن مفتي الجالية الإسلامية في صربيا، محمد حمدي يوسف سباهيتش، أن مسلمي بلغراد "سعوا للحصول على تصاريح لبناء مساجد على مدى عقود، لكن كل تلك الطلبات توضع في الأدراج، ولا تصل حتى إلى مرحلة التأهل لتقديم الأوراق". 

وتشير الوكالة -نقلا عن شهادات مسلمين صرب- إلى أن سلطات بلغراد تجاهلت مرارًا طلبات بناء مساجد جديدة، منوهة إلى أن النقص في أعداد المساجد يثير تساؤلات عن التزام الدولة بحقوق الأقليات، وهو مقياس مهم لجاهزيتها وإمكانية قبول ترشحها في عام 2009  للانضمام للاتحاد الأوروبي. 

وقد حذر تقرير مرحلي للاتحاد صدر عام 2016 من أنه يجب على المسؤولين الصرب "الضمان الكامل لحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقلية قومية في إنشاء المؤسسات الدينية وتسجيلها، وبناء أماكن العبادة واستخدامها".
 

حكم ذاتي

وإزاء التضييق الممنهج والمتصاعد ضدهم، يرى خير الدين باليتش أن أقصى طموح لدى مسلمي صربيا حاليا هو الاستفادة من حكم ذاتي في مناطقهم، بخاصة في إقليم سنجق ذي الأغلبية المسلمة، من دون أن تكون لديهم أي نوايا انفصالية أو طموحات لتأسيس دول مستقلة، لصعوبة تحقيق هذا المراد وأيضا بسبب غياب الدعم من قبل دول العالم الإسلامي، وفق تعبيره. 

ويضيف "ليس لدى مسلمي البلد أفكار للانفصال عن صربيا، أو تأسيس دولة لهم، وبصراحة لا يوجد إمكانية لذلك.. العالم الإسلامي للأسف يلتفت فقط إلى مناطق المسلمين في حال الحروب والأزمات، وبالطبع يستطيع أن يفعل الكثير في مراحل أخرى، لكنه غائب عن سنجق ومناطق أخرى من البلقان". 

ويقول المسؤول الصربي المسلم السابق "ما من دولة عربية واحدة بذلت مساعي للتواصل مع مسلمي صربيا"، ورغم الجهود التي تقوم بها المشيخة الإسلامية في هذا البلد لبناء علاقات مع المؤسسات الإسلامية في العالم العربي فإنها لم تلقَ قط التجاوب المنشود. 
 

(الجزيرة نت) 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر