الأخبار
Image Description

صلاح الأصبحي

مأساة المعلم اليمني

‫كتابنا‬| 11 أكتوبر, 2024 - 4:23 م

 كل فلسفات العالم القديمة والحديثة والنظريات والدساتير ومبادئ الثورات  تجمع على مثالية المعلم وأهميته، وتنظر له كقائد يتولى بناء المجتمع وصنع لبنته الأساسية التي تضمن نهضة علمية وثقافية ومعرفية لأية أمة، ولا يمكن تحت أي ظرف من الظروف الإخلال أو الانحراف عن مسار هذه الحقيقة.

تختزل مأساة المعلم اليمني فداحة الحرب وقبح الصراع وتجاعيد التهاوي، حيث تكشفت صور هذه المأساة وبانت أوجاعها وسُمعت أناتها، ولم يقابلها إلا التجاهل والتغاضي دون احتساب أي خطر سندفعه في المستقبل طالما التزمنا الصمت والتنكر لهذا البطل، للصانع الحقيقي للأجيال، والمسؤول الأول عن تفتيق وعينا وثقافتنا ومعرفتنا في هذا الوجود.

لقد صمد المعلم اليمني طيلة عقد كامل مقاوماً كل عوامل التعرية والاجتثاث، وتدهور الوضع السياسي الذي انعكس في المقام الأول سلباً عليه، وانجرفت أهميته وتمزقت قيمته في ثنايا ذلك التدهور، حتى وصل إلى حالة الاحتضار، بعد أن خارت قواه واستنفذت طاقته في تحمل بؤسه المادي ونفسيته المنهارة ومكانته المتلاشية.

 فرض الانقسام السياسي الماثل في اليمن -الذي أحدثه الانقلاب الحوثي-، على المعلم جزءاً من سياساته وتبعية نهجه، ففي المناطق الحوثية حُرم المعلم من راتبه منذ سنوات؛ لأن المليشيات الحوثية تنظر له كعدو مناوئ لهدفها المضمر المتمثل في ترسيخ الجهل، ونسف قطاع التعليم، وفرض نموذج آخر له منبثق من فكرها الطائفي وتصورها الذاتي أو الدفع بالشباب إلى الجبهات كرديف للتعليم.

أما في المناطق الشرعية المحررة فإن إبقاء المعلم على هذه الشاكلة البائسة يعد جرماً وطنياً وخيانة عظمى لأهداف ثورة 26سبتمبر، كون المعلم يمثل محوراً مركزياً في صلب المعركة الوجودية بين الجمهورية والإمامة.

كان الاحتفاء باليوم العالمي للمعلم، باهتاً من قبل القيادة السياسية والحكومة والوازرة المعنية والنخب والمثقفين، تلفظ الجميع بعدة جمل ميتة في السوشيال ميديا، كالتزام دعائي أمام الرأي العام فحسب، لكن ذلك الحماس اللحظي العابر يعكس حالة النفاق والزيف والتنصل، ولا يرتقي لمستوى المسؤولية والجدية في اعتبار قضية المعلم اليمني حالة طارئة تستوجب النظر، سواء كدولة أو كمجتمع.

تلقى المعلم اليمني المحطم هذا اليوم بازدراء ونفور وتألم إزاء معاناته، وتضخم أوجاعه وجلد ذاته كمهل ومنسي تعيس، يفتقر لأبسط مقومات الحياة، بينما ينعم تلامذته الفاشلون بحياة مرفهة ومناصب مرموقة ومكانة اجتماعية مشهودة، وهو يترنح في الهامش ويصارع في الخفاء.

الحقيقة المرة أن استحضار صورة المعلم واستذكار وجوده ينتصب في يوم يتيم وفج ويتلاشى مع أفوله، ثم يسقط في دائرة النسيان لعام آخر، مع الإصرار على المضي في طريق التجهيل دون أن يكون المعلم مصباحاً يضيء درب المسير واستمرار عجلة الحياة.

ما يثير الهلع في هذا السياق أن الإشكالية لا تقتصر على المعلم الفاعل في سلك التعليم حالياً؛ بل إن تداعياتها تنبئ عن مستقبل مظلم سيعانيه قطاع التعليم في القادم، حيث غيرت هذه الإشكالية منظومة التفكير وزاوية النظر للمعلم في البنية الأساسية للتعليم والمجتمع، إبان إيقاف التوظيف في السلك التربوي منذ 2014، وهذا الأمر ترك التربويين المتخرجين العاطلين فريسة للبطالة واليأس من جانب، وسلعة رخيصة تعبث بها المدارس الأهلية وتستغل ظروفها بسعر بخس يضاعف الندم والنفور من مهنة التعليم.

وليس هذا وحسب، بل أجبر خريجي الثانوية الطامحين بالالتحاق بالتعليم الجامعي  على الاستبعاد القطعي للتسجيل في كلية التربية المصدر الرئيس للمعلمين لدرجة أن كلية التربية في مختلف الجامعات اليمنية تعاني من غياب شبه كلي لطلاب جدد يلتحقون بها، مهما قدمت من تنازلات في شروط القبول؛ مما دفعها لاتخاذ خطوات إغلاق بعض أقسامها المهمة كالفيزياء والرياضيات وقبلها الاجتماعيات، والأقسام المفتوحة طلابها كل عام لا يتجاوز عدد أصابع اليد.

والمفارقة الغريبة التي تقودنا إلى جوهر الإشكالية أن نسبة كبيرة من المعلمين العاملين في التعليم حالياً هم  في مرحلة التقاعد، على سبيل المثال في مدينة تعز أكثر من 5000 معلم متقاعد من إجمالي 17000، لا يزالون يدامون- رغم تقاعدهم نظراً لغياب البدي- تطوعاً منهم وحفاظاً على استمرار العملية التعليمية دون أن تلتفت الجهات المختصة لاحتواء الموقف، ووضع معالجات سريعة تفادياً لتعطيل المدارس أو توقفها.

أليست حزمة التحديات الآنفة الذكر كفيلة باعتبار التعليم والمعلم على قمة الأولويات والمسائل الطارئة في طاولة الحكومة والقيادة السياسية قبل أن يكتمل الإخفاق، ويبلغ العجز مرحلة الفشل، وتأتي أجيال يستعصي تعليمها إذا كان المعلم على وشك الفناء؟.

لست مبالغاً في إثارة هذه القضية أو مهولاً لمعطياتها، وإنما الأبعاد المنطقية  والمؤشرات الفعلية التي ألمسها عن كثب في الواقع هما من دفعا بي إلى طرح الموضوع، وليس الحديث عنه تغريداً خارج السرب؛ بل تخوفاً حقيقياً من مآلات ترحيل هذه القضية إلى أجل غير مسمى وتبرير ذلك بالتأزم السياسي الذي نعانيه.

والنقطة التي تحيرني في هذا السياق أن المنظمات الدولية الفاعلة في اليمن لم تأبه بالمعلم، ولم تدرج التعليم في مشاريعها الممولة، وتنشغل بشؤون أخرى لا تضاهي التعليم وتدهوره أهمية وضرورة، لا أدري أهو تعمد مقصود أم تجاهل المسؤولين اليمنيين وتهميشه في خطاباتهم مع المنظمات والمانحين والدول الداعمة لليمن.

إذا لم نعيد الاعتبار للمعلم اليمني ونكفر عن إهمالنا له وتركه وحيداً يناطح بؤسه فإن الإمامة ستبتلع الجمهورية، كون المعلم هو العلامة البارزة والثمرة النيرة التي أفرزتها الجمهورية في العقود الماضية قبل أن تعود الإمامة بنسختها الحوثية الجديدة.

مقالات ذات صلة

[ الكتابات والآراء تعبر عن رأي أصحابها ولا تمثل في أي حال من الأحوال عن رأي إدارة يمن شباب نت ]
جميع الحقوق محفوظة يمن شباب 2024