عن اليمن والفوضى


صلاح م. إسماعيل


يرتبط مفهوم الدولة بالنظام و الحد من الفوضى في جغرافيا بحدود معينة بين الفئات السكانية و الإثنية و الدينية و بين الأفراد البين عبر عقد اجتماعي يسمى الدستور و عبر قوانين في مختلف مجالات الحياة. و سقوط الدولة يرتبط بالفوضى و الفشل و خروج الأمور عن السيطرة و دخول المجموعات السكانية و الأفراد في صراع و دوائر عنف، و النزوح و اللجوء و الهجرة بحثا عن أماكن أفضل. يميل الإنسان للفوضى إن لم يجد قانونا يردعه و إطارا يحكمه من الأسرة إلى العشيرة و القبيلة ثم الجماعة وصولا إلى الدولة. و نشوء الدولة و قبلها الأشكال الأقدم للتنظيم كالأسرة و القبيلة يعد تعبيرا عن حاجة البشر للنظام الذي يحميهم من بعضهم كأفراد و جماعات و الذي ييسر حياتهم عبر تحديد الحقوق و الواجبات و توزيع الأدوار.
 
لا شك أن سقوط الدولة في اليمن جعل حياة المواطنين أكثر تعقيدا و صعوبة، فلا أسوأ من دولة ضعيفة إلا حالة اللادولة. لكن إلى أي مدى اختلف وضع اليمنيين بعد سقوط الدولة عما كان قبله؟ أو إلى حد تطور مستوى الفوضى؟
 
و هل كانت الفوضى في اليمن نتيجة لغياب الدولة أم أنها صفة بنيوية تميز اليمنيين، -الذي يميلون للفوضى و يعزفون عن التنظيم-؟
 
لم يكن التدهور الناتج عن سقوط الدولة في اليمن كبيراً إذا ما قارناه عما كان قبل السقوط، ذلك أن اليمن لم يكن يعيش في ظل دولة بالدلالة الكاملة للمصطلح. أي أن الدولة كانت تمثل الحد الأدنى من مظاهرها. و الفوضى الموجدة ليست صفة مميزة لليمنيين بل نتيجة للوجود القاصر للدولة. فاليمنيون يعيشون تقريبا في ظل شبة دولة منذ زمن بعيد، و قد تكيفوا على ذلك تقريبا، تكفيا لا يجعلهم يملون في البحث عن الدولة العادلة. أي أنهم يعيشون في ظل دولة مقصرة في الحقوق و المسؤوليات و ينحصر وجودها على خدمات محدودة، كالرواتب و الأجور.
 
إذن يمكن القول أن ما تأثر به اليمنيون عند سقوط الدولة يرتبط بشكل أساسي في المعاشات و الأجور لموظفي القطاع العام. لكن هل يمكن أساسا حشر مهام الدولة في هذا الدور -فقط-؟
 
بالطبع لا، فللدولة مهام أبعد و أشمل. تنظيم العلاقة بين الجماعات و المواطنين و حمايتهم من أنفسهم عبر فرض القانون و توفير الخدمات الأساسية لهم كالكهرباء و الماء و الصحة و الطرقات، و تمثيلهم و حماية مصالحهم في الخارج. لم يكن سقوط الدولة مدمرا لليمنيين في التنظيم و سبل الحياة بتلك الدرجة التي تقلب حياتهم رأسا على عقب. ذلك أنهم اعتادوا الحياة في شبه دولة و تكيفوا مع وضعهم و اختاروا طرقا أخرى للتنظيم و تسير حياتهم، حياتهم الشاقة و الصعبة أساسا. أي إن اعتمادية اليمني على الدولة بسيط، باستثناء موظفي القطاع العام الذين يأخذون الأجور منها، و التي غالبا لا تكفي لسد احتياجاتهم و تجعلهم يبحثون عن مصادر دخل إضافية. لذلك تجد أن نسبة كبيرة من اليمنيين تتجه للاغتراب بحثا عن الفرص. كما أن الخدمات الأساسية لا تتوفر في أغلب مناطق اليمن التي تتكون من الريف بنسبة 70% و بلا خدمات كالطرق و الكهرباء و المشاريع الصحية. منذ عقود اعتمد اليمنيون على المبادرة الذاتية عبر يسمى بالتعاونيات لشق الطرقات و بناء المدارس أو ايصال التيار الكهربائي.
 
بالنسبة للفوضى التي تعني عكس النظام، فلم تزد بذلك الشكل الكبير مع سقوط الدولة كما يمكن أن يحدث في دول أخرى تمثل فيها الدولة غراء التماسك للمجتمع.
 
ذلك أن مظاهر الفوضى كانت موجودة أساسا في اليمن في وضع شبه الدولة، و التي اعتاد فيها اليمنيون على اللجوء إلى وسائل أخرى للتنظيم كالتحكيم القبلي و الأعراف و غيرها في ظل تغيب القانون و عدم التزام الدولة بسيادته كأهم مهامها.
 
و تلعب الأعراف و التقاليد الاجتماعية في حماية الناس لبعضهم من بعضهم مع غياب سيادة القانون الذي يعد ضمانه من مهام الحكومة. و لا ننسى دور الهوية اليمنية الجامعة في تماسك المجتمع، حيث لم تصل الفوضى إلى التقاتل عبر الهوية كما حدث في دول كثيرة عاشت أوضاعا مماثلة.
 
إذن ربط اليمنيين بالفوضى باعتباره طابع بنيوي كمجتمع لا يميل للتنظيم و القانون انطباع خاطئ تماما. فقدرة اليمنيين على تسيير حياتهم في ظل لا دولة و - إن كانت قدرة شاقة و فيها من القصور الكثير فلا غنى لأي مجتمع عن الدولة- تعني أن ميوله للتنظيم و الالتزام بالقانون أكبر إن وجدوا دولة تنظم حياتهم و علاقاتهم البينية.
 
أخيرا، الحديث هنا لا يعني التقليل من فداحة اسقاط الدولة، فليس أسوأ من دولة قاصرة إلا اللادولة. كما أن اسقاط الدولة جعل مهمة بناء الدولة أكثر صعوبة و مشقة عما كان سابقا و جعل الحياة أكثر أقسى و أبأس لملايين اليمنيين. و سيظل بناء الدولة شغل اليمنيين الشاغل و طريقهم للخلاص و مهمتهم الأعظم كضمان لمواطنة متساوية و لحياة كريمة و مستقرة.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر