إسرائيل تعظ… الشيطان يندهش!


محمد جميح

تحاول الدعاية الإسرائيلية توظيف كل ما من شأنه إسناد روايتها التاريخية والمعاصرة عن الحق والباطل والحرب والسلام والأرض والمقدسات، وغيرها من مفردات السردية الرسمية في إسرائيل.
 
ومن تلك الوسائل تقمص أدوار وعظية دينية، بلغة خطاب إسلامي يعاد توجيهه لخدمة الأهداف الإسرائيلية، وبأسلوب يجعل أكثر الشياطين مكراً يقف مشدوها من أفعال كيان قتل أكثر من عشرين ألفاً، فيما هو يحاول الإمساك بمسبحة الواعظين.
 
نقرأ في حساب إسرائيل بالعربية – مثلاً – الآية الكريمة: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» صدق الله العظيم.
 
ويعلق الموقع بقوله: «إن بر الوالدين من أهم وصايا الدين الحنيف، وما اقترفه برابرة حماس من قتل وجرح واختطاف واحتجاز بحق هؤلاء المسنين أمر لا يمت إلى الإسلام بصلة» في محاولة لتوظيف للنص القرآني لإدانة حركة حماس، مع تنزيل الآية في غير منزلها، مع حشر نصوص من الحديث تحث على عدم التعرض لكبار السن، في سياقات مختلفة، مذيلة بتساؤلات من مثل: أين هي أخلاق الإسلام؟، وكأن السائل نسي أنه يمثل دولة قتلت أسراها، ناهيك على أكثر من عشرين ألف فلسطيني أكثرهم نساء وأطفال.
 
 
وخلال الأسابيع الماضية تحدث مسؤولون عسكريون وسياسيون وإعلاميون إسرائيليون باسم الإسلام، وأكثروا من سرد آيات قرآنية وأحاديث نبوية يسقطونها كيفما اتفق لتقوية موقفهم الدعائي بتنزيل دلالات النصوص على المواضع التي يريدون.
 
ومن النصوص القرآنية التي ترد كثيراً لدى الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية، قوله تعالى «يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين» ثم يحيلون هذا «التفضيل» على أمثال شامير وشارون ونتنياهو وغيرهم ممن تلطخت أيديهم بدماء المدنيين على مدى عقود طويلة.
 
هذه الإحالة لـ»النص المقدس» على «منصوص غير مقدس» تشير إلى خلل منهجي في التعاطي مع نصوص لا تقيم وزناً للتسلسل الجيني للأعراق والشعوب، قدر ما تعطي هذا الوزن للترابط الديني الذي تدخل فيه شعوب وأجناس شتى، ذلك أن النصوص المقدسة تدور حول الدين لا الجين، وحول الرسالة لا السلالة، وبالتالي فإن «بني إسرائيل في القرآن» لا علاقة لهم إطلاقاً بـ»دولة إسرائيل في فلسطين» حتى ولو ثبت جينياً أن الإسرائيليين اليوم هم نسل الإسرائيليين أمس، مع استحالة ذلك.
 
الكتب المقدسة مهتمة بالرسالات لا السلالات، وتكريم سلالة ما يأتي من كونها حملت رسالة، وتفضيل الجين يتم لأنه متصف بالدين، وعندما تتخلى السلالة عن الرسالة وينتقل الدين إلى جين آخر فإن الأفضلية – حسب المنطق الديني – تتبع الرسالات لا السلالات، وهذا ما لا يدركه أولئك «السلاليون الإسرائيليون» الذين يفتحون نصوص القرآن على منصوصات لا علاقة لها بالدلالات الحقيقية لتلك النصوص المقدسة.
 
ويمضي المنطق الديني مع انتقال الرسالة من «سلالة إسرائيل» الإبراهيمية إلى «سلالة إسماعيل» الإبراهيمية، ليتحدث عن تلك الأمة بأنها «خير أمة أخرجت للناس» لا على أساس سلالي، لكن بناء على الالتزام الرسالي، ليظل «التفضيل والخيرية» مرتبطين بالرسالات لا السلالات.
 
وقد وردت نصوص قرآنية كثيرة تحذر من اعتبار الرسالات حكراً على السلالات، ونعتت نصوص قرآنية بني إسرائيل بالتكذيب وقتل الأنبياء، من مثل ما ورد في سورة المائدة، آية رقم 70 التي ورد فيها عن بني إسرائيل: «كلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم فريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون» في منهجية واضحة تؤكد ارتباط التفضيل بـ«الفكرة» لا «الأسرة».
 
وهي المنهجية ذاتها التي ربطت «الخيرية» بالالتزام الرسالي، لا التسلسل السلالي عند المسلمين، حيث وردت نصوص كثيرة، من مثل ما جاء في سورة محمد، آية رقم 38 «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» في إشارة واضحة إلى ارتباط الخيرية بالرسالة لا السلالة وبالتزام الفكرة لا اتباع الأسرة.
 
ومن العبارات الإسلامية التي تكثر من استعمالها الجوقة الإعلامية الإسرائيلية عبارة «حسبي الله فيكم يا دواعش حماس» في سعي لغرس تلك العبارات في اللاوعي الجمعي العربي، مع إفراغها من محتواها الديني الإسلامي، وإعادة توجيه المحتوى بما يخدم دعاية الاحتلال وسياساته.
 
ومن الكلمات ذات السياق الإسلامي التي اقتبستها آلة الإعلام الإسرائيلي كلمة «تكبير» التي تحيل على عبارة «الله أكبر» وهي جزء من منظومة الأذكار الإسلامية التي ترد في الصلاة وغيرها، ويطلقها المقاتلون المسلمون في السياق الحربي للإحالة إلى ضعف قوة العدو أمام قوة الله.
 
كل تلك وغيرها الكثير من العبارات الإسلامية التي يرددها ساسة وعسكريون وإعلاميون إسرائيليون، منها ما يهدف إلى السخرية من تلك العبارات، ومنها ما يسعى لجعل تلك العبارات تنفصل عن محتواها، لترتبط بمحتوى مؤيد لقوات الاحتلال، بعد إبعاد تلك العبارات عن دلالاتها النصية والسياقية، من مثل «لا حول ولا قوة إلا بالله» و «إنا لله وإنا إليه راجعون» و»اتقوا الله يا عرب» ناهيك على عبارة «شهداء إسرائيل» و»شهداء أرض الميعاد» وغيرها من العبارات التي يتم إفراغها من محتواها الإسلامي وشحنها بمحتوى إسرائيلي نقيض بتأويلات تنحرف بها عن أصل وضعها اللغوي ودلالتها السياقية.
 
ومع الخلل المنهجي في التأويل المنحرف استمرت آلة الدعاية الإسرائيلية في توظيف النصوص القرآنية خارج سياقاتها النصية والتاريخية، معتمدة الأسلوب القديم الذي أشارت إليه النصوص القرآنية في تبديل دال مكان دال أو إفراغ الدال من مدلوله وإعادة شحنه بمدلول آخر، بما يتماشى مع المصالح السياسية لدولة الاحتلال، وهي المصلحة التي عبرت عنها النصوص القرآنية باتباع الهوى، وهو الوصف الذي يقترن في القرآن بوصف «العدوان» الذي يمارسه المعتدون الذين ورد ذكرهم في سورة الأنعام، آية 119 التي جاء فيها: «وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين» وكأننا إزاء الأساليب الإسرائيلية المعاصرة في تحريف الدوال الشكلية والمدلولات المعنوية، اتباعاً لهوى «المعتدين» ومصالحهم.
 
المثير في الأمر أن نصوصاً في القرآن الكريم ذكرت أن مثل تلك الأساليب التي يتم بها تفريغ النصوص المقدسة من محتوياتها قد حدثت من قبل، حيث وردت آيات تشير إلى «حرف النص عن المنصوص» أو «إزاحة الدال عن المدلول».
 
وقد ورد في عدة مواضع في القرآن الإشارة إلى هذا التكتيك القديم الجديد، حيث جاء في سورة النساء، آية 46: «من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه» وقد صُدّرت الآية بحرف الجر «من» التبعيضية، في إشارة إلى ضرورة عدم التعميم، وهي معيارية دقيقة ومنصفة في تحديد الفئة التي تقوم بـ»تحريف الكلم عن مواضعه».
 
وورد المعنى بلفظ مختلف في سورة المائدة، آية 41 التي ورد فيها: «يحرفون الكلم من بعد مواضعه» حيث عُدّي الفعل في آية النساء بحرف الجر «عن» وفي آية المائدة تمت التعدية بحرف الجر «من» بالإضافة إلى ظرف الزمان «بعد» في إشارة إلى اعتماد تكتيكين: الأول يعمد إلى إسقاط اللفظ على غير معناه، وذلك بالإبقاء على النص مع نسف المنصوص، أو الاحتفاظ بالدال مع نسخ المدلول، وهو ما أشارت إليه آية النساء، والتكتيك الثاني يعتمد على «إبدال المنصوص» بـ»إبدال النص» أو تحريف النص نفسه، وليس الاكتفاء بتأويل المنصوص، بشكل منحرف.
 
وقد توسع المفسرون المسلمون في الحديث عن الفرق بين الآيتين في البنية النصية والمعنى الدلالي، غير أن الجامع المشترك بين تلك الاختلافات يدور حول إرادة تحريف المدلولات أو الأحكام، إما بالتأويل الفاسد، أو بتغيير دال مكان آخر، والعبث بالتركيب البنيوي للنص المقدس، وهذا ما يحاول الإسرائيليون اليوم القيام به، وهي محاولات بائسة ومحكوم عليها بالفشل، كما فشلت محاولات الأولين، مصداقاً للآية عميقة الدلالة: «إن كيد الشيطان كان ضعيفا». صدق الله العظيم.
 
*نقلاً عن القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر