مرّ عام تقريباً منذ توقيع اتفاق الرياض، في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، بين الحكومة اليمنية الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً. ولم يخرج الاتفاق عن كونه مجرد حبر على ورق، لم ينفّذ منه بند واحد، وهو الاتفاق الذي يتضمن شقين، سياسي وأمني عسكري، باعتبار الأخير هو أس الأزمة وسببها، فيما الشق السياسي تحصيل حاصل لما سيترتب عليه تطبيق الشق الآخر. 

  

ما يتم الحديث عنه اليوم من إمكانية تطبيق الاتفاق وإعلان تشكيل الحكومة، بعد عام من التوقيع، يضع المراقب للوضع يفقد قدرته على التعاطف مع المتفائلين بإنجاز شيءٍ بعد كل هذا الوقت من الانتظار، وفي ظل الواقع المعقد على الأرض، أي أن التمني شيء والواقع شيء آخر تماماً. 

  

في الوقت نفسه، ليس من يمني يمتلك ذرة من ضمير أو عقل، بعد كل الحرب والدمار والانهيار الوطني الكبير، والشامل على كل المستويات اقتصادياً وأمنياً وتعليمياً وصحياً وإنسانياً، لا يأمل ويرجو الله أن يذهب اليمنيون كلهم، من دون استثناء، إلى السلام والحوار اليمني اليمني في ظل التكالب الخارجي على اليمن، والرغبة في إغراقه في حروبٍ لا تنتهي. 

 

ولكن الأماني غير الواقع، فالمشهد اليمني ملغوم بكل التدخلات الخارجية التي سلبت اليمنيين القدرة على القرار، وحتى القدرة على التفكير باليمن وما وصل إليه. وهذا ما يجعل كل اليمنيين، في الداخل والخارج، يدفعون ثمنه باهظاً، من أمنهم واستقرارهم وصحتهم ومعاشهم وحياتهم، فالكل من دون استثناء يعاني، حتى من تمكّن من مغادرة اليمن، متخيّلاً أنه سينجو من تداعيات هذه الحرب التي اختطف الخارج أهدافها وقرارها وحرفها عن مسارها الوطني بإسقاط الانقلاب واستعادة الشرعية. 

   

بالعودة إلى اتفاق الرياض وحملة المتفائلين حول تطبيقه خلال أسبوع من إعلان الجانب السعودي عن إمكانية ذلك، وبدء عمليات الانسحابات العسكرية من مناطق المواجهات، في محافظة أبين بين قوات الشرعية وقوات ما يسمّى المجلس الانتقالي، لا تخرج مثل هذه التصريحات عن كونها محاولة من السعودية لتأكيد قدرتها على دفع كل الأطراف اليمنية إلى تطبيق الاتفاق كيفما اتفق، حتى بدون تنفيذ كل ما جاء في بنوده الأولية، فقط تشكيل الحكومة هدفها الوحيد، حكومة لا قرار لها ولا سيادة ولا جود على الأرض. 

  

الجانب الأخطر في حديثهم عن التطبيق المتسارع للاتفاق، بعد عام من التوقيع، أن الاتفاق لا يخرج كونه أشبه باتفاق السلم والشراكة الذي فرضته المليشيات الحوثية، برعاية وتواطؤ أمميين، حينها، عشية سقوط العاصمة صنعاء، في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، لشرعنة انقلابها حينها. واتفاق الرياض هو الآخر لا يعدو كونه شرعنة لانقلاب مليشيات الانتقالي، المدعومة إماراتياً، على الحكومة الشرعية وسيطرتها على العاصمة المؤقتة عدن 

 

واليوم تتم شرعنة ذلك الانقلاب بمنح تلك المليشيات وجوداً شرعياً في هياكل الدولة الشرعية، ولكن من دون تجريد تلك المليشيات من سلاحها وتفكيكها، ومن ثم دمجها ضمن مؤسسات الدولة الشرعية. ومن شأن مثل هذا التوجه، بالإبقاء على تلك المليشيات، بسلاحها وقوامها العسكري، وبقائها خارج مؤسسات الدولة وقرارها السيادي، أن يجعلها تمثل عقبة كبرى أمام أداء أي حكومةٍ ممكن تشكل، ولو ضمت أفضل الكفاءات اليمنية، وأكثرها نزاهة وقدرة على العمل والإبداع، لأن الدولة، في الأخير، هي مظلة سيادية للجميع، تحتكر السلاح وعنفه والقرار المستخدم له. أما وقد فقدت القرار واحتكار السلاح فهي أعجز وأبعد عن تسميتها بالدولة. 

   

عدا عن ذلك، اتفاق الرياض ابتداءً هو لإيقاف الاقتتال بين الشرعية والمليشيات، الاقتتال الذي أحدثته المليشيات والسلاح المنفلت بيدها والمموّل من أطرافٍ من مصلحتها إشاعة الفوضى المليشيوية، وتغييب مؤسسات الدولة اليمنية وتدميرها، كي يتسنّى لهذا الطرف، ممثلاً بالإمارات، السيطرة على مؤسسات الدولة السيادية، كالمطارات والموانئ والجزر والمعابر البرّية وغيرها، بحجّة عدم وجود مؤسسات الدولة وعدم قدرة الحكومة من السيطرة وحماية مؤسساتها. 

  

وانطلاقاً من هذه البديهية، ليست المشكلة اليمنية جنوباً في تشكيل الحكومة وتقاسمها بين المكونات، فهذه المسألة ليست جوهرية أصلاً، بقدر ما هي تحصيل حاصل للمأزق الكبير المتمثل بالمليشيات والسلاح المنفلت، والذي أحدث كل الحروب والمواجهات والتمرّدات ضد الحكومة الشرعية منذ بداية تأسيس هذه المليشيات. واليوم لا يمكن الحديث عن قرب تطبيق اتفاق الرياض في واقعٍ معقدٍ يقول عكس ذلك. 

 

فالحلول لهذه المعضلة لا تبدأ بالشق السياسي، ممثلاً بتشكيل الحكومة، وإنما يفترض بداهة أنه يبدأ بالشق العسكري والأمني، ممثلاً بانسحاب المليشيات وتفكيكها، ومن ثم دمجها في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، وغير هذا الإجراء، فلا يمكن الحديث عن تطبيق اتفاق الرياض، وحتى لو تم تشكيل الحكومة، وعادت إلى عدن، لن يكون لتشكيلها ووجودها في عدن أي معنى، ستكون مجرّد حكومة متختطفة، بلا سيادة أو قرار. 

   

وانطلاقاً من كل هذه الحيثيات، تأخر تطبيق اتفاق الرياض كل هذا الوقت طبيعي، لأنه لا يمكن حلحلة المشهد المليشياوي بمجرّد تشكيل حكومة، وبالتالي امتناع الرئيس عبد ربه منصور هادي واستماتته، كل هذه الفترة، في عدم الذهاب إلى تطبيق الشق السياسي بدون البدء بالشق الأمني والعسكري، هو تأكيد على هذه الإشكالية الجوهرية التي يتعامى الجانب السعودي عنها ويسطحها، بالتماهي مع الجانب الإماراتي الذي يرى أن تفكيك المليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة سيفقدها أي تأثيرٍ على المشهد اليمني. 

  

وبالتالي، يعدّ الحديث عن إمكانية تطبيق الاتفاق ضرباً من الخيال الجموح، في ظل واقعٍ يقول بعدم إمكانية تطبيقه، خصوصاً وأن قضايا كثيرة عالقة تقول باستحالة هذا الأمر، وفي مقدمة هذا القضايا جزيرة سقطرى التي تم فيها طرد السلطات المحلية الشرعية منها، وإحلال مليشيات الانتقالي الإماراتية محلها، وليس هذا فحسب، بل استمرار سيطرة الإمارات على الجزيرة وعزلها نهائياً عن اليمن هو مؤشّر على أن اتفاق الرياض لن يكون سوى كذبة كبرى، لا يتسنّى منها سوى شرعنة هذا الوضع الشاذ يمنياً، والاستمرار في تفكيك اليمن ومليشنته تحت مظلة الشرعية ومسرحية اتفاق الرياض هذا. 

 

*نقلا عن صحيفة العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر