الموسيقى والفيروس


مروان الغفوري

سيغير الوباء شكل حياتنا، أشياء كثيرة في سلوكنا وخيالنا، وسنعيش لزمن وقد فقدنا إحساسنا القديم بالأمن والزهو. سنصبح أقل غروراً وربما أكثر بخلاً. البخل ناتج طبيعي عن المخاوف. مدن جنوب الجزيرة العربية الصغيرة الواقعة بين المحيطات والصحاري الشاسعة هي مدن عاش أهلها خائفين، وعُرفوا تاريخياً بخوفهم الشديد على المال، فثمة غائلة وشيكة قد تأتي من البحر أو الصحراء. لا ينفق المال سوى أولئك الذين تأكدوا أن المستقبل سيضمن لهم استمرار المصالح والأرزاق، وأن المال سيعود مرة أخرى.
 
تتوقع منظمة التجارة العالمية انهياراً في سوق البضائع بنسبة قد تصل إلى 32%، أي ثلث سوق العالم. ندور داخل شكل هش للاقتصاد العالمي، عرضة للتصدع في أي لحظة، وأكثر ما يهدده هو “الخطر المعنوي”، إذا استعرنا من كروغمان. سيمضي الاقتصاد، يدور ويدور طالما كان الأمن حاضراً، والثقة متوفرة. إذا ذهب كل المودعين إلى البنك في الوقت نفسه فلن يجدوا أموالهم. الأموال موجودة، ولكنها أيضاً غير موجودة.
 
الكراسي الموسيقية
 
هناك خمسة كراسي لعشرة أشخاص.. لنبقَ واقفين، كل شيء على ما يُرام، ولنرقص ونحتفل، وإذا أحس أحدنا بالتعب فليرتح قليلاً على واحد من الكراسي الخمسة. أما إذا شعرنا جميعنا بالإنهاك الشديد وقررنا الجلوس في الوقت نفسه فإن خمسة منّا سيكون عليهم أن يجلسوا على الأرض. علينا ألا نتعب جميعنا في وقت واحد، وألا نحس بالخوف الشديد. إذا خفنا فسوف نذهب إلى المتجر كفوج واحد، ولن نجد ما يكفي من الخبز.
 
تاريخياً ثمة أطوار من الصعود البطيء والهبوط المتدرج لكل “اقتصاد”. اقتصادنا الحديث استثناء، فهو عرضة للانهيار المفاجئ كما يقال بالإنجليزية.
 
في “لعبة الكراسي الموسيقية” هناك مجموعة من الأشخاص يدورون حول كراسي أقل عدداً، وموسيقى تتحكم باللعبة. عليهم أن يواصلوا الدوران مادامت الموسيقى تصدح. وإذا توقفت فليجلسوا كلهم. واحد منهم على الأقل لن يجد كرسياً، وعليه أن يغادر اللعبة. كي نشترك فيها جميعاً، لا بد أن تواصل الموسيقى عملها، وألا تتوقف ولا للحظة واحدة.
 
ما يحدث لأسواق النمط أمر مريع، يهدد كل أشكال الاقتصاد في العالم، سوق النفط هي التي تحمل الناي، وحولها يدور العالم. إن أبعد نمط للإنتاج المستقل عن النفط هو مرتبط بتلك السوق بشكل أو آخر. على العالم أن يغادر تلك السوق من أجل حياة بيئية أكثر أمناً، وليحدث الخروج خلال عقود من الزمن لا بين عشية وضحاها.
 

الدراسات العلمية: كورونا يَقتُل ولا يَقتُل!
 
تحدثنا منظمة الصحة العالمية محبطة، بحسب رئيس المنظمة تيدروس أدهانوم، فإن قرابة 3% من سكان العالم من المحتمل أنهم قد أصيبوا بفيروس كورونا. بالنسبة للمنظمة فهذا أمر محبط بعض الشيء، فهو يعني أن نسبة صغيرة للغاية باتت محصنة ضد الفيروس. 97% لا يزالون عرضة للإصابة. أصدر بالأمر تحذيراً جديداً: الخروج من العزلة، الحظر سيحدث مشكلة كبيرة، ستزيد الحالات بصورة كبيرة. من أين جاءت المنظمة بهذه النسبة؟

من مسوح صغيرة ومبكرة!

في الأيام الماضية ظهرت بيانات عديدة.

مثال أول: دراسة أجريت في مقاطعة سانتا كلارا [في ولاية كاليفورنيا]. في الدراسة أخذ الباحثون عينات دم من حوالي 2300 شخص لم يسبق أن شُخصوا كمصابين بالفيروس. لاحظ الباحثون أن قرابة 3% منهم يحملون، بالفعل، أجساماً مضادة للفيروس في دمهم. لقد أصيبوا دون أن يلاحظوا ذلك. يعيش في المقاطعة حوالي 2 مليون نسمة، تقول السلطات إن عدد الحالات الموجبة قرابة 1100 حالة. ما وجده الباحثون أمر مختلف؛ قرابة 80 ألف شخص أصيبوا بالفيروس، وليس ألفاً واحدة. إذا كانت نسبة الوفيات حوالي 2% [من الألف الحالة] فإن هذه النسبة تصبح: 0.03%. وهي نسبة ضئيلة للغاية، ربما أقل من نسبة وفيات الإنفلونزا العادية.

السؤال الذي طرحته صحيفة وول ستريت جورنال كان: من أجل هذه النسبة الضئيلة من الوفيات علينا أن ندمر اقتصاد الكوكب!

مثال آخر: أجرى المستشفى المركزي في ووهان دراسة على حوالي 3300 عامل في المستشفى وحوالي 5000 من زواره، ممن لم يصابوا بالفيروس. وجد الباحثون أن 2% [داخل عينة دراسة التي بلغت حوالي 8300 شخص] يحملون أجساماً مضادة ضد الفيروس، أي أصيبوا دون أن يلاحظوا ذلك.
 
قالت السلطات في ووهان إن عدد الإصابات وصل إلى حوالي 50 ألف حالة. الباحثون هنا يرفعون العدد إلى ربع مليون. أما نسبة الوفاة، بأخذ العدد الجديد في الاعتبار، فقد هبطت إلى ما دون الـ1%.
ووجدت دراسة هاينسبيرغ، التي قام بها البروفيسور شتريك، أن 14% من الناس الذين لم يسبق أن أصيبوا بالفيروس صاروا يحملون أجساماً مضادة له بالفعل! ما يدفع نسبة الوفيات المعلنة في ألمانيا إلى الانخفاض إلى كسور صغيرة في المئة.

دراسة أخرى من فرنسا هبطت بنسبة الوفيات إلى ما تحت الـ1%.
 
حسناً، لنعُد إلى تيدروس، رئيس منظمة الصحة العالمية [قامت الصين بتسميته للمنصب في 2017 وأصرت على اختياره خلفاً لرئيسها الصيني المغادر]:
 
إن 2% من البشرية، النسبة التي طرحتها المنظمة، يعني 230 مليون نسمة. وإذا وضعنا عدد الوفيات المعلن [قرابة 100 ألف] في الحسبان، فإن نسبة وفيات الفيروس، عالمياً، تتراوح بين 0.03 و0.04% .. بمعنى آخر: يحتاج الفيروس لإصابة ما بين 2000 و3000 شخص كي يتمكن من قتل شخص واحد!
 
لكنه يقتل مئة ألف خلال أسابيع قليلة! هذه معضلة معقدة. يقتل لكنه لا يقتل. نسبة صغيرة للغاية هي وفياته، لكنها تراكمية وفي لمح البصر. يطرح تحديا رياضيا غير مسبوق.
 

لماذا أوقفنا الموسيقى؟
 
يُطرح الآن سؤال جوهري: هذه نسبة وفيات ضئيلة للغاية، مقارنة بوفيات أي وباء آخر. هل نحن أمام فيروس غير قاتل؟ وهل جازف العالم بالتضحية باقتصاده وأمنه أمام وباء غير قاتل؟
 
هذه المعضلة هي السؤال المطروح الآن على أكثر من رصيف دولي. ما الذي يجري بحق الإله؟ وكيف نتدارك الأمر؟ أوروبا تعود مرّة أخرى إلى الحياة، ثمة دول مثل السويد لم تخرج من الحياة في الأساس. تفاخر كاتب سويدي مرموق بالأمس على صفحات وول ستريت جورنال، قائلاً: “نحن نستمع للعلم ولا نخضع للتهاويل. مدارسنا مفتوحة، وبالأمس كنت في المطعم مع أصدقائي”.
 
 معدل وفيات السويد مرتفع مقارنة بجارتها النرويج: 9% مقابل أقل من 2% لدى جارتها النرويج. مرة أخرى، هذه النسبة مضللة، فالسويديون مثل باقي العالم لا يعرفون العدد الحقيقي للحالات. تجري السويد الآن مسحاً على مواطنيها لتعرف نسبة من أصبحوا يحملون أجساماً مضادة في دمهم، أي أصيبوا ولم يشعروا. من المتوقع، كما جرى في بلدان كثيرة، أن تهبط نسبة الوفاة [رقمياً] إلى ما دون الـ1%.
 
خذوا هذا المثال: قام مستشفى بريسبايتيريان، نيويورك بفحص حوالي 212 امرأة حامل جاءت للوضع. لاحظ الباحثون أن 14% منهن يحملن أجساماً مضادة ضد الفيروس، ولم يسبق أن شُخصنَ كمريضات في السابق.
 
هذه البيانات تحفر عميقاً في “قصة الفيروس” وتضعنا أمام حقائق جديدة، ومن جديد يُطرح السؤال:
 
لماذا أوقفنا الموسيقى؟
 
لا إجابة حتى الآن. البيانات تتصاعد. تقول دراسة أخرى إن آلية انتشار الفيروس في المناطق الملوثة تشبه آلية انتشاره في المناطق المكتظة. التلوث، الاكتظاظ، الصحة العامة الفردية والجماعية، شروط عديدة تسهل على الفيروس حركته، وتجعله مميتاً أحياناً.
 
بالأمس توفيت سيدة جديدة في مدينتنا، بعد إصابتها بالفيروس، كانت تبلغ من العمر 88 عاماً، لا يزال عمر الوفيات فوق 85 عاماً في المدينة هُنا، حيث نعيش، وفوق الثمانين في ألمانيا. يصيب الشبان ويقتل الشيوخ. هذا لا يعني أنه مرض خاص بكبار السن، فهو مرض لكل الأعمار، ولكن مجموعات بشرية معينة هي الأكثر عرضة، وأقل مقاومة. علينا أن نتمهل الآن، ونتردد في القفز إلى الاستنتاجات، وألا نقترح على الفيروس ما الذي ينبغي عليه فعله. نحن أمام وباء مراوغ، قد يسحق النظام الطبي دون أن يكون قاتلاً شرساً. هذه المعادلة الحرجة لا بد أن تتحصل على إجابة شاملة واستراتيجية في طريق بحثنا عن باب الخروج.
 
الدراسات التي أحلتُ إليها بالأعلى مبكرة ومحدودة، ومن الصعب الاستناد إليها في صناعة استراتيجية خروج أو في إعادة تقييم ضراوة الفيروس.
 
نحن بحاجة لمسوح كبيرة، عشوائية، متعددة المراكز، وباستخدام تقنيات ذات حساسية أعلى. استناد منظمة الصحة إلى هذه الدراسات “الوخزية” هو قفزة مستعجلة بعض الشيء، لكنها سمحت بمناقشتها. بنهاية أبريل/نيسان سنحصل على بيانات أولية لمسح ألماني واسع شمل حوالي مئة ألف شخص، وستكون نتيجة مسح كهذا بالتأكيد ذات دلالة عظمى.
 


*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر