حتى يوم السابع عشر من فبراير/ شباط الجاري 2018، تكون ثورة عام 1948 اليمنية، قد أتمت عقدها السابع، كأحد أبرز الأحداث السياسية في تاريخ اليمن الحديث، التي أطلق عليها "الثورة الدستورية"، نسبة لما عرف بـ "الميثاق الوطني المقدس"، الذي مثّل وثيقة دستورية، ودليلا نظريا شاملا، لإدارة شئون البلاد، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وعسكريا، بعد الإطاحة بالإمام يحيى حميد الدين، بواسطة عملية اغتيال نفذها مجموعة من الثوار في منطقة حزيز، التي أصبحت، الآن، ضمن العاصمة صنعاء.

لم تستهدف هذه الثورة جوهر النظام، بقدر ما استهدفت شكله، كمرحلة من مراحل التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ وبالتالي ظل نظام الإمامة قائما، مع وضعه في إطار الشورى، وكان ضمن هذا التحول، أن حل الإمام عبدالله أحمد الوزير، محل الإمام يحيى حميد الدين، وتوزعت أجهزة السلطات بين مجموعة من أعيان اليمن وبعض المتنورين، واستأثر آل الوزير بقدر كبير من المناصب الهامة، كما تسلق الثورة عدد من الانتهازيين، الذين مثلوا، إلى جانب عوامل أخرى، عامل إحباط أمام الطامحين في التغيير الجذري، وكسر الهيمنة الأسرية، والتمايز الطبقي.  
 
في جدل، ربما لا يضيف شيئا إلى الواقع، انشغل البعض حول ما إذا كان هذا الحدث ثورة، أم انقلابا، أم مجرّد حركة؟ فيما انهمك البعض في ذرف دموعهم على مقتل الإمام يحيى، والتعلل بكبر سنه، وما إلى ذلك من المعاذير، التي لا تخلو من تعريض بالثورة ورجالها، مغْفلين مواقفه الرافضة لدعوات الإصلاح السياسي والاقتصادي، التي كثيرا ما نادت بها النخب السياسية والفكرية، ولربما كان الخلاص منه بهذا الأسلوب، آخر الخيارات المتاحة والممكنة، لا سيما مع انتهاجه سياسة انغلاقية عزلت اليمن عن ما يجري في محيطه الإقليمي والدولي، وصودرت معها أبسط الحقوق والحريات.
 
لم تكن ثورة 1948 أول حراك ثوري يمني تجاه نظام بيت حميد الدين، فقد سبقتها انتفاضة المقاطرة، بمحافظة تعز، عام 1922، التي كانت أولى بواكير نضال اليمنيين تجاه ذلك النظام، كما أن ثورة 1948، رغم إخفاقها، مثلت بارقة أمل في حياة اليمنيين، ومصدر إلهام لعدد من الحركات الثورية، التي تلتها، ومن ذلك: انقلاب عام 1955، والمظاهرات الطلابية، التي تلت ذلك، إلى أن توج هذا النضال بثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، مطيحة بالإمام أحمد يحيى حميد الدين.
 
كغيرها من الثورات، التي مرّ بها اليمن، لم تسلم ثورة 1948 من الكيد الدولي والإقليمي، الذي قضى عليها خلال أقل من شهر، فضلا عن عوامل داخلية أخرى أدت إلى وقوع ذلك، مثل: فشل القضاء، أولا، على ولي العهد، أحمد يحيى حميد الدين، وضآلة الحشد الشعبي الضامن للحفاظ على الإنجاز الثوري. أما الكيد الإقليمي فتمثل بموقفي مصر، بقيادة الملك فاروق، والسعودية، بقيادة الملك عبدالعزيز، الذين لعبا دورا بارزا في إجهاض الثورة، خشية تمددها إلى عرشيهما، فيما كان موقف بريطانيا، التي كانت تحتل الشطر الجنوبي من اليمن، موقفا محايدا، لكنه انتهازي في جوهره، انتظرت فيه من يصنع النهاية؛ وبالتالي كانت عملية إجهاض الثورة ناعمة إقليميا ودوليا، ومزلزلة داخليا، حين وُفّر الوقت لولي العهد، للإطاحة بها، فحشد القبائل، واستقطب الجيش الموالي للثوار، فسقطت الثورة في 13 مارس/ آذار من العام نفسه.

لم يتوقف القمع عند رجال الثورة ومؤيديهم، بل طال الكثير من شيوخ القبائل، لمجرد الشك فيهم، وقد بدا ذلك، واضحا، في استهداف الشيوخ من أبناء المناطق الوسطى، مثل: تعز، وإب، والبيضاء، وأجزاء من ريمة ووصاب، التي لم تسلم، كذلك، من هجمات السلب والنهب، بعد أن أباحها الإمام أحمد لأنصاره، مثلما أباح صنعاء، بوصفها "مناطق مفسِدة"، حسب ما أشيع حينذاك. وقد كان مما عثر عليه كاتب هذا المقال، من خلال الجلوس مع بعض من عاصروا تلك الأحداث، توصيفٌ "البرشوت"، على هجمات السلب والنهب، التي شنتها قبائل ما كان يسمى "اليمن الأعلى" على المناطق الوسطى، وهو توصيف لا يزال في حاجة إلى مزيد من البحث، للتحقق من مصدره وارتباطه بالحدث.

مثلت هجمات النهب تلك، وسيلة إخضاع أو تطبيع للعهد الأحمدي الجديد؛ حيث استهدفت ممتلكات الفلاحين من الحيوانات، والغلال، علاوة على الأسلحة الفردية، التي، عادة ما كان أعيان تلك المناطق والميسورين منهم يحتكرونها دون سواهم، ولم يسلم من ذلك إلا ما أخفي في أعالي الجبال، والكهوف النائية، أما الرجال المطلوبين، فقد تمكن بعضهم من الهروب إلى عدن، والاستقرار فيها، ولم يعرف مصيرهم إلا بعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب عام 1990. ومما سمعته من بعض المسنين، أن مما رافق تلك الهجمات قول جرى على الألسن حينها، وهو : " يا قبائل عنس وآنس والحدا، غداكم وعشاكم بلاد المفسدات"؛ في إشارة إلى المناطق الوسطى، التي أيدت تلك الثورة، وطالتها هجمات السلب والنهب تلك.

على نحو ما يحاك من أقاويل مغرضة بحق أي ثورة شعبية، فقد حرض المناوئون على ثورة 1948، بمختلف أشكال التحريض، سواء أثناء اندلاعها أو بعد إجهاضها، إلى الحد، الذي وُصف رجالها بـ"محرّفي القرآن"، وهو توصيف مقابل "للدستوريين"، الذي كان فهم الناس له فهماً مغلوطا؛ نتيجة لحملة التضليل، التي شُنت على الثورة ورجالها، واعتقد العوام من الناس أن الدستور سيكون بديلا للقرآن في الحكم. بل لقد كان لشدة تأثير الدعاية المضادة للثورة، أن تحول هؤلاء الثوار إلى مضرب مثل في الخيانة، ولقد سمعت من أحد سكان صنعاء القديمة، وكان ضابطا قديما في الجيش، أنه ساد لفترة طويلة بعد ثورة 1948، القول: "يا عِراقي"، كصيغة شتم، بمعنى: الخائن؛ في إشارة إلى أحد الثوار، وهو جمال جميل العراقي.

وجمال جميل، أو "الرئيس"، كما كان ينادى من قبل أقرانه، ضابط عراقي من أبناء الموصل، ومن ألمع المشاركين في هذه الثورة، وتولى فيها الجانب الأمني، أما قدومه إلى اليمن فقد كان ضمن بعثة عسكرية عراقية، استقدمت، عام 1940، لتدريب الجيش اليمني، لكنه آثر البقاء في اليمن بعد انقضاء مدة عمل البعثة، وتزوج بيمنية. ومما يؤثر عنه، قوله في وجوه المحيطين به من الشامتين ومحطّمي الأمل، لحظة إعدامه:"لقد حبلناها وستلد".
 
دروس تاريخية، ووطنية، وسياسية، وقومية، ونضالية، خلفتها هذه الثورة، ولا ينبغي الإعراض عنها، خاصة مع ما تمر به البلاد من تداعيات الانقلاب، الذي قاده الحوثيون على الرئيس عبدربه منصور هادي في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، والانقلاب المكمل له في 6 فبراير/ شباط 2015. هذه الدروس تكشف لنا أن الإمامة لا يزال خطرها قائما على اليمن، رغم سقوط خرافتها عام 1962، وأنها قد تأتي في ثوب انقلاب مخلّص أو ثورة شعبية.


*مقال خاص بـ"يمن شباب نت"

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر