"إدانة الجريمة"..


عبدالحكيم هلال


 هنا يظهر الفارق الأكثر وضوحا بين اليمني الحامل لقضيته الوطنية، وبين ذلك المدعي، المتعصب لقضية خاصة ضيقة (مذهبية، طائفية، مناطقية، أو عنصرية..الخ).

لاقت جريمة قصف صالة العزاء بصنعاء (8 أكتوبر 2016) إدانات واسعة، تجاوزت معسكر التحالف الانقلابي، إلى الطرف الأخر المؤيد للشرعية الرافض للانقلاب. وليس فقط الرافضون منهم للتدخل العربي لإعادة الشرعية، بل والمؤيدون له أيضا.  

قلة قليلة، ربما، من هذا الطرف (وأغلب الظن أنهم الأكثر تعصبا ضد الميليشيات الانقلابية، كنتيجة لفضائعها الإجرامية التي لم تعد تُحصى)، هم الذين ذهبوا للتبرير فقط، بينما الغالبية من هذا الصنف ربما ابتلعوا ألسنتهم وفضلوا الصمت وفي دواخلهم ما يجعلهم يبررون ذلك.

حتى مع أن هناك، من بين هؤلاء، من يستند في حجته إلى النظر في طبيعة الضحايا، من حيث أن معظمهم (أو بالأحرى معظم من أعلن عنهم حتى الأن) هم ضباط برتب كبيرة في الأمن والجيش، أو مسئولون كبار، منخرطون بشكل او بآخر مع سلطات الانقلاب في قتل الشعب اليمني. الأمر الذي يجعل مثل هؤلاء ينظرون إلى الأمر في سياق هذه الحرب القاتلة، التي كان تحالف الانقلابيين هو أول من بدأ بإخراجها من سياقها الأخلاقي، إلى حرب عمياء لا تحكمها القوانين والأخلاق..

 إلا أن ذلك، في المقابل، لم يكن ليبرر ارتكاب جرائم لا أخلاقية، بالنسبة للغالبية الأخرى من هذا الطرف  الرافض للانقلاب، الذي من الواضح أنه تخلى عن أية حسابات سياسية ليدين ويستنكر الجريمة، بكونها استهدفت موقعا غير حربيا، بغض النظر عن نوعية المستهدفين، وأن يكون معظم الضحايا – كما يتردد حتى الأن - هم قيادات عسكرية وأمنية وسياسية تنضوي في إطار المعسكر الانقلابي، الذي ما زال يخوض معه حرب أهلية طاحنة، أكلت الأخضر واليابس وأودت بحياة عدد كبير من اليمنيين، نسبة كبيرة منهم ضحايا مدنيين حصدت معظمهم آلة القتل الطائفية الانتقامية.

هذا التخالف (مع ضرورة التنويه إلى أن مقياسنا هنا ينسحب على الأشخاص أكثر من الجماعات السياسية المنتظمة)، ليس من الدقة تفسيره على أنه حاصل وجود تشقق سياسي بين القمة والقاعدة في صف الطرف المؤيد للشرعية، بقدر ما يمكن عزوه - وبدرجة أكبر ربما - إلى إشكالية التداخل بين ما هو ثابت وما هو متغير، كواحدة من مخلفات الحرب الداخلية. كما قد يمكن اسناده أيضا - وعلى نحو مصاحب لما سبق - إلى نوعية المرجعيات، وربما سعة التجربة وحجم المعاناة الشخصية، أو الجماعية، وبالتالي ما ينبني على ذلك من ردات فعل، تسلبها فضائع الحرب قيمها الوطنية الجمعية النبيلة والثابتة.

وبشكل عام، قد يمكن إرجاع ذلك، إلى التفكك الاجتماعي، المشفوع بانهيار قيمي، سعى تحالف الانقلابيين إلى خلقه في النسيج الاجتماعي وتوطينة كحقيقة اضطرارية في عقلية اليمني، تمهيدا لابتلاع البلاد بعد تمزيق الوطن وتدمير معنى أن يكون للجميع، وتمييع مبادئ الوطنية وسحق قيمة المواطنة المتساوية.     

  بالتأكيد، ليست هذه المقارنة – على أهميتها كتمهيد - هي جوهر ما أردنا بلوغه في هذه التناولة، بل سيتوجب علينا الانتقال – منها وعبرها - إلى توضيح ذلك الفارق الجوهري بين ما هو موقف وطني وموقف دون وطني، خاضع لعصبية مذهبية أو طائفية أو لتحقيق أهداف فئوية ضيقة، بالمقارنة بين نخب وقوى معسكري الانقلاب والشرعية.

وجوهر القول هو: إذا كانت نسبة كبيرة من طرف معارضي الانقلاب ومؤيدي التدخل العربي في اليمن لإعادة الشرعية، لم تتردد عن إدانة واستنكار مثل هذه الجريمة، بعيدا عن اية حسابات سياسية ضيقة، ورغما عن كم المبررات التي يسوقها القلة في هذا الطرف؛ فإن ذلك، في المقابل، يدعونا إلى المقارنة بمواقف النسبة الأعظم في معسكر الانقلابيين، فيما يتعلق بجرائم ميليشياتهم في قصف المنازل والاحياء السكنية واستهداف المدنيين بشكل عام..!!

لن نتجاوز حدود اليمن الجريح إلى البحث في مواقف تدين وتستنكر القصف الجوي الروسي والسوري الأكثر فظاعة ضد المستشفيات في سوريا، والذي يحدث بشكل شبه يومي، رغم إدراكنا جميعا علاقة ومواقف هذا المعسكر الانقلابي في اليمن مما يحدث في سوريا.

ذلك أنه يكفينا فقط أن نبحث عن مواقف، ولو نسبة بسيطة جدا من بين هؤلاء، تكون قد أدانت ما يحدث من جرائم مشابهة ضد المدنيين داخل اليمن من طرف الميليشيات الانقلابية التي يتبعونها..!

الحاصل هو عكس ذلك تماما: نجدهم يدافعون عن تلك الجرائم، ويبررون لها على نحو وقح، يكشف بكل وضوح حجم الانهيار القيمي الذي بلغوه بفعل تماهيهم مع أهداف جماعتهم الخاصة على حساب شمولية الوطن.

بل أبعد من ذلك، أنه: في حين قد يلجأ بعضهم إلى السخرية والتهكم من الضحايا تحت عبارات مناطقية فجة، نجد أكثرهم تعصبا يحولون الضحايا (معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ) إلى مجرمين يستحقون الموت..!!

لماذا؟ ربما يتساءل البعض..!! فتأتيك الإجابة الأكثر وقاحة في التاريخ: لأنهم يتواجدون في المساحات التي تخضع لسيطرة الجيش الوطني والمقاومة الشعبية..!!  

في الواقع يتجلى الفارق الجوهري هنا على نحو اكثر وضوحية، بين من يعتبر اليمني الأخر (المخالف على الأرجح) بمرتبة حيوان يستحق القتل بدم بارد، بينما هو السيد أو الحاكم أو الزعيم الذي له الحق أن يقتل، ومبادلته القتل جريمة يستحق عليها القتل أيضا..!!

في النهاية، يتوجب علينا التأكيد أننا هنا لا نستجدي تعاطفا من منحرفين خلعوا رداء الوطن ولبسوا جُبَة مجرمي الحرب..إننا فقط نحاول أن نقول: أن ثمة وطنيون مازالوا قادرين على التمسك بالثوابت الوطنية التي تحاولون تدميرها وتحويلها إلى متغيرات محكومة – أو يجب أن تكون كذلك - بسلطة الأمر الواقع، وتغذيها فظائعكم الإجرامية.  

 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر