الاعتياد، كارثيّته وجماليّته


عبد الله شروح

 "بكوا في أول الأمر، ثم ألفوا وتعودوا. إن الإنسان يعتاد على كل شيء، يا له من حقير!" دوستويفسكي.
 
لا أكثر تأثيراً من المواجهة الأولى للشيء، لحظة الاشتباك الأولى مع ما هو غير مألوف، سواء كان جميلاً أو بشعاً. السبب في تألق ذكريات الطفولة، مقارنة بتفلّتها في زمن الشباب والشيخوخة، ليس ناتجاً عن ضمور في خلايا الذاكرة بقدر ما هو ناتج عن مألوفيّة الأشياء. الطفولة زمن استكشاف، حين لا تزال مجهولية العالم، بكل ظواهره، بكراً، ثمّ لن يكون بوسع الحواس أن تتلقى الظاهرة للمرة الثانية بالدهشة نفسها للاكتشاف الأوّل.
 
حقيقة التعوّد هذه يمكن قبولها في إطار تلقي الظواهر الطبيعية: مشاهدة الشروق مثلاً، أو قوس قزح، أو استماع زغردة عصفور، أو اشتمام رائحة وردة، لكنها تغدو منغصاً أخلاقياً في ما يتعلق بالظواهر الاجتماعية.
 
منذ أشهر وشاشة التلفاز لا تكف عن تعرية وإظهار واحدة من أبشع جرائم الإنسانية. تنكيل بلا سقف ولا رادع. استفزاز مستمر للشعور، استفزاز قاتل. قطعة أرض صغيرة تتكدس فيها أعلى نسبة سكان في العالم، تتعرض منذ أشهر لقصف متواصل من السماء والبر والبحر، بدعم من أعتى حكومات العالم. هذه المجزرة لاقت في فصولها الأولى تفاعلاً رافضاً كبيراً، لكن هذا التفاعل أخذ في التناقص في الوقت الذي ازدادت فيه وتيرة التنكيل، والحديث هنا عن تفاعل الشعوب العربية تحديداً.
 
سيكون علينا من باب الإنصاف الإقرار بأن جزءاً كبيراً من هذا الخفوت الملحوظ في التفاعل يعود إلى الشعور الجمعي بالخزي. أوقفتنا هذه المجزرة المستمرة أمام عجزنا الكبير، فلم يعد أمامنا للهرب من هذا الشعور المذل سوى أن ندفن رؤوسنا بالتراب على طريقة النّعام، لكننا أيضاً، على الأغلب، قد تعوّدنا، وهذا النمط من التعوّد يفصح عن أحقر ما في الإنسان، كما في مقولة دوستويفسكي.
 
على أن هنالك بشراً أكثر استعصاءً على الاعتياد، وهؤلاء غالباً ما يكونون هم مهندسي الخلاص.
 
في رواية "العمى" لجوزيه ساراماغو، كل العميان كانوا على المستوى نفسه من الحساسية تقريباً في الأيام الأولى من بقائهم في الحجر الصحي، ثم أخذت هذه الحساسية تخفت، يوماً بعد يوم، مع تصاعد الوضع المزري لهم جميعاً، إلى أن بلغوا حد النوم على غائطهم بكامل اللا مبالاة. بقيت امرأة فقط مستعصية على هذا التعوّد، وكانت هي الدينامو الذي حرّك ثورة التحرر من سجن الحجر الصحي ذاك، وإن كان ذلك التحرر قد حدث في الأخير من تلقائه، بسبب انهيار كامل المنظومة من الخارج.
 
في محيط من قابلية التعوّد على التشوّهات، يتألّق المستعصون مثل جواهر إنسانية نادرة.
 
من ناحية ثانية، هنالك وجه جميل للتعوّد. إنه ذلك الذي تفقد معه آليّة الطغيان، التي هي التخويف، فاعليتها باستمرار. للطغيان سوط هائل، حين يهوي به للمرة الأولى يثير فزعاً يؤدي إلى الخضوع، لكنّ هذا الفزع يكون أقل في الضربة الثانية، وهكذا فإن السوط يفقد تأثيره شيئاً فشيئاً باستمرارية الضرب. ميلان كونديرا تحدث كثيراً عن هذه الجزئية في رواياته، في نقده لآلة القمع للأنظمة الاشتراكية في البلدان التي سيطرت عليها في القرن الماضي.
 
يخاف المرء من الدبابة حين يراها في مدينته لأول مرة، ومن الشرطة والاستخبارات حين يُقاد إلى أول تحقيق وأول جلسة تعذيب، لكن الاستمرارية تقتل هيبة الطغيان أيضاً، وسرعان ما يمضي المرء لإلقاء قذيفة على الدبابة أو قنبلة على مركز التحقيق ببرود من يتمشى في نزهة اعتيادية..
 
في هذه النقطة تتجلى جمالية الاعتياد التي نشاهدها اليوم في بسالة الإنسان الغزاوي وهو يواجه، بثبات، كل هذا الطغيان الذي يتعرض له بلا انقطاع وبوتيرة متصاعدة.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر