عزلة اختيارية


نور ناجي

 قال تعالى: "إذ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا"- سورة الكهف.
 
لم يملك فتية الكهف مخططا مناسبا للحفاظ على عقيدتهم فآثروا الإبتعاد حتى يتدبروا أمرهم؛ ليكونوا بذلك اشهر من أتخذ قرار "العزلة" دون أن تكون للأوبئة والفيروسات يد في ذلك..
 
على ما يبدو أن ذلك الهروب كان الحل الأنسب والاسلم أمام حاكم ميؤوس من إصلاحه، ومجتمع يرفض الاختلاف، حتى انقضى على الفتية أكثر من ثلاثمائة سنة في الكهف، قبل أن تكون مقايضة حريتهم بإيمانهم هي الحدث الأهم!.
 
لم تكن تلك الحادثة هي "العزلة" الوحيدة المذكورة في القران الكريم، فقد أشارت سورة "يس"- وإن بشكل غير صريح- إلى "عزلة" أقصر، أختارها أحدهم من أجل إيجاد حلول كان ينشدها!.
 
"وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ".. نقف أمام الإختبار التقليدي الذي طالما وضعت فيه الأمم، والذي- على الأغلب- لن يمر بسهولة وسيلاقي الرفض الشديد كغيره، إلا أن تلك القرية لم تكتفِ بالرفض المجرد، بل أوشكت على الفتك برسلها: "قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ"، مازالت تتابع الأحداث قبل أن تلتقط هتاف قادم من بعيد..
 
طالما حملت سورة "يس" طابع خاص، شَجّن، لا تهتم- مع مرور الوقت- بتحديد منبعه، بقدر تمسكك به. وعلى الأغلب أن شعور الشفقة مازال يراودك كلما توقفت أمام لهاث الرجل المذكور في الاية: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"..
 
اللافت للنظر، أن الرجل لم يكن في قلب المدينة لحظة الاضطرابات التي سادتها، كما يفترض به أن يكون!..هل قرر اختيار "العُزلة" بعد وصول المرسلين، في محاولة تأمل هادئة لإيجاد إجابات لم تكن ضوضاء المدينة تمنحه إياها؟!..
 
يبدو أنه كان يدرك بأن التمسك العنيف بالمنظومة القديمة- رغم عيوبها- هو رد الفعل الأولي لأي محاولات تغيير مطروحه، دون الاهتمام بدراسة الطرح الجديد، ووضعه في ميزان التحليل والمنطق!!..
 
 يحدث أن تنادي لفكرة، وتتعصب لها بكل ما أوتيت من قوة، قبل أن تدرك بأن ما كنت تدعو إليه لم يكن نابعاً منك بقدر ما كان نتاج لما يتردد حولك..
 
لا تنقل التجمعات عدوى الأمراض فقط، فالأفكار ذات الصيت الأعلى- بغض النظر عن قيمتها- تنسخ نفسها عبر النطاق الذي تصل إليه، مكونة "سياسة القطيع"!..
 
كان الرجل يدرك تأثير تلك السياسة، فقرر اعتزالها حتى يخرج بما يرضيه دون تأثيرات خارجية. على الأغلب أنه لم يضع الشرائع الجديدة، المعروضه على قريته، نصب عينيه، بل ركز طاقته على "الرسل المبعوثين للقرية"!!
 
لم يكن "المُرسَلوُن" من أهالي القرية، كما يبدو؛ كما أنهم مازالوا يرددون استغنائهم عن أي مكاسب- وإن كان مُلكاً- حال إيمان القرية، إلا أنهم لم يتزحزحوا عن محاولاتهم! فما الذي يضعهم أمام خطر يدركون، تماماً، المهالك الناتجة عنه؟! هل فقدوا عقلهم حتى أمسى مصير القرية أهم من مصائرهم؟! أم أنّ تَحّمُّل الأذى كان في سبيل أمر أكثر اهمية؟!..
 
لعلَّ الله سبحانه وتعالى لم يضع اختباراته على الأمم وحسب، ربما جعل الجزء الأكبر أمام الرُّسُلّ لمعرفة مدى تمسكهم بما يدعون إليه!!..
 
توصل الرجل لصدق المُرسَلِين، ففزع إلى أهله، عارضا عليهم النتائج التي توصل إليها، متداركاً ‏حماقتهم، فقال لهم ناصحا: "اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ"، قبل أن يعلن إيمانه علناً لعل أفكاره هي ‏الأخرى تنعكس رأياً عاماً على قريته: "وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ ‏مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ"..‏
 
وُلِدَ المرءُ حراً، ولم تُسَن السجون عقابا إلا لأثرها السيء على الفرد، إلا أن اختيار "العزلة" قد يُحدِث فعلا عكسياً، ويعالج الروح السقيمة قبل أن يوسع مداركها ونظرتها لما حوله. كان الصحابي عمر ابن الخطاب من أكثر أهل قريش معاداة للاسلام، قبل أن يختار اعتزالها- كما أوردت كتب التاريخ- ولم يمض على عودته بعض الوقت حتى أعلن إسلامه..
 
ربما يقف العالم على أعتاب "عزلة إجبارية"، يعلم الله تعالى موعد انتهاءها، ولنا أن نرفض كونها إجبارية باختيار كيفية قضاء الوقت فيها؟
 
 يقول ابن جوزية: "يا هذا، إذا رزقت يقظة فصنها في بيت عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهَّابة!”..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر