السعودية التي نريد


محمد علي محروس

بعيدًا عن قضية خاشقجي التي صدّرت للعالم صورةً قاتمةً من السعودية الجديدة، ذات الرؤية المستقبلية الطموحة، التي بدأها الأمير الشاب محمد بن سلمان منذ توليه ولاية عهد أبيه، مقدمًا في سبيل الوصول إليها تنازلات كبيرة للدول الكبرى، ومقرًا سلسلة من الإجراءات الصادمة للمجتمع السعودي، على إثرها قيل إن السعودية لم تعد على صلة بالأصولية ولا تمت لها البتة، وذلك ما أقر به بن سلمان نفسه في كذا لقاء تلفزيوني، ليؤكد أن السعودية اختارت أن تكون مختلفةً؛ حتى الوصول إلى ما هو مرسوم في 2030م.

في سنة 1973م، أعلن الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، توقيف الصادرات النفطية السعودية إلى العالم، ليمثل القرار صدمة حقيقية قلبت الموازين الدولية حينها، إذ كان القرار ورقة ضغط للتعامل مع القضية الفلسطينية، أو ما يمكن اعتباره أداة تأديبية للقوى الكبرى التي كانت تدعم إسرائيل للعبث في فلسطين ومحيطها العربي كما تشاء.

شكل القرار حالة توقف على المستوى العالمي، فالنفط السعودي يومها كان إكسير الحياة، ورغم المدة القصيرة التي انتهت بمقتل الملك فيصل على يد ابن أخيه، المصاب بحالة نفسية كما تقول الروايتان السعودية والأمريكية، إلا إنه كان أشجع قرار اتخذته دولة عربية لمناصرة فلسطين، وكان القرار السعودي الوحيد الذي يعبر عن الإرادة السعودية الفعلية في إطار التعامل الجاد مع قضايا المنطقة.

منذ ذلك الحين، والسعودية تفتقد للقرار المستقل، فهي لم تعد في سياق يضمن لها إحداث الفاعلية المأمولة منها ككبرى دول العالم الثالث، سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، وباتت ضمنيًا تابعةً للسياسة الدولية الاعتبارية في المنطقة، رغم قوتها التي لا يستهان بها.

إن الظروف الدقيقة التي صاحبت عملية الصعود الأسطوري لولي العهد الشاب، تبعث العديد من التساؤلات المحجوبة عن الواقع، تساؤلات تبين الفارق بين السعودية اليوم، والسعودية التي نريد.. رغم صعوبة الإجابة، إلا إن عددًا من المؤشرات والممارسات جعلت من السعودية دولةً مكشوفة الهدف، مفضوحة النية، على رأس تلك المؤشرات، حرب اليمن، وعلى رأس تلك الممارسات، قضية خاشقجي التي وقعت في قنصليتها بإسطنبول التركية، مطلع هذا الشهر.

كيمني عربي، لا أريد السعودية بهذه الصورة الباهتة، فمن مصلحتي، ومصلحة الدول المجاورة لها، ودول المنطقة، أن تكون السعودية دولة كاملة الإرادة، ذات قرار سيادي على كافة المستويات، دولة مهابة الجانب، ذات مشاريع مستقلة، وليست جسر عبور لتمرير مشاريع تضر بمصالحها أولًا، وتعمل على تفتيت محيطها ثانيًا، وتغير ديموغرافية المنطقة، لصالح إسرائيل، والكيانات الأخرى الموازية، من أقليات مستقلة الجغرافيا، أو أخرى ذات أبعاد دينية معادية للسعودية والإسلام السياسي المعتدل.

إن القرار السعودي الذي اتخذه ولي العهد لإنقاذ اليمن، كان قرارًا جريئًا للغاية، وحسب المعطيات السعودية الداخلية فإنه كان تحوّلًا كبيرًا في السياسة السعودية التي تنتهج الحوار الهادئ، وتعتمد الآلية الدبلوماسية حتى تحقق ما تريد.. وعلى الرغم من أهميته، حينها، لإنقاذ اليمن من انقلاب دموي، حوّلها إلى مقبرة كبيرة، مهددًا جيرانها، على رأسهم السعودية، إلا إنه انحرف في بوتقة رزمة من المشاريع الفرعية، التي حوّلت القرار التاريخي السعودي إلى مغامرة كبيرة غير محسوبة النتائج، كما استخدمت هذه الحرب كورقة ضغط من حلفاء إقليميين ركبوا الموجة بين ليلة وضحاها، ففرضوا العديد من الأطر السلبية التي خلقت حالة من الاستياء في الوسط الشعبي اليمني جراء تمدد عاصفتا الحزم وإعادة الأمل، اللتان اعتبرتا فاشلتين جدًا، والنتائج على الأرض دليل قاطع على ذلك.

لقد مثل التحالف العربي طوق نجاة لليمنيين من جماعة سلالية إرهابية، أساءت لليمن وجيرانها، ولكن ذلك كله لُف في سياق التدخل الفاشل زمنيًا من قبل السعودية وحلفائها، والذي لم يحقق سوى حصار قطر، الدولة الأصدق في تعاملها مع القضية اليمنية، لا كما فعلت دول أخرى، من شراء ولاءات، وصناعة مليشيا منازعة للدولة اليمنية الوليدة، وافتعال الأزمات، واحدةً تلو الأخرى، لصناعة رأي عام يمني مضاد للمملكة الشقيقة ولدولة ما بعد الانقلاب، وليت بن سلمان وأجهزته العليا يستشعرون ذلك، فينقذون ما يمكن إنقاذه، قبل أن يكون ولات بعد حين!

نريد سعودية متصلة بنا، يضرنا ما يضرها، وما يمسنا يمسها، وليست سعودية تنظر إلينا بنظرة الدونية، وتتعامل معنا كتابعين لها، وليس كأشقاء، لهم حق الأخوة والجوار.
نريد سعودية فيصل، مع قليل من الصبر والحكمة؛ لتحقيق مآرب ستعود عليها بفوائد مستقبلية غير عادية على كافة المستويات.

نريد سعودية، تمدنا بما يعيننا على النجاح؛ لنوازي دولًا أخرى في المنطقة، ونكون لها خير السند وخير المعين، لا سعودية تتفاخر بتكففنا إياها، وبحملات الإغاثة التي تمن بها علينا من حين لآخر، مع نقل إعلامي غير مسبوق، وحالة من التلذذ بمعاناة اليمنيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي: إننا ننقذهم، أو هكذا يقولون!

نريد سعودية واضحة، قوية، رادعة، عصماء، متصلة بجيرانها، ومحيطها العربي، وإقليمها الإسلامي، وتكون على قدر كبير من المسؤولية والثقة التي تمكنها من ريادة وقيادة العالم الإسلامي، بدون ذلك وبسياستها الحالية، فإننا أمام سعودية خاوية من الداخل، تائهة الهدف، تحركها أهواء الحلفاء الانتهازيين كيفما وأينما تشاء... وهذه ليست السعودية التي نريد، ولا يريدها السعوديون أنفسهم.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر