عن مستقبل مأرب


مصطفى ناجي

يقول المثل الصيني "في كل أزمة سانحة" وها هي مأرب تجد في هذه الحرب سانحة وتظهر لنا وجهها الحقيقي الجميل.
 
على نقيض كل المدن اليمنية، اذا لم يكن هناك استثناء بسيط في مدن حضرموت، فإن الحياة في مأرب تزدهر كما لم تفعل منذ قرون. وهذا الانتعاش لا يقتصر على مجال بعينه بل يشمل جوانب الحياة العامة كافة في مدينة كانت مقصية ومدموغة بسمعة سيئة بمرسوم سلطاني مقصود في عهد صالح او لدوافع مذهبية في ظل حكم الإمامة.
 
ينتعش الاقتصاد وتنشأ الاعمال ويزيد الناس في المدينة ويعمر البنيان. وتظهر مأرب الارض والإنسان مستقبِلة كريمة في ظروف ليست سهلة وفِي وقت قياسي ومن دون سابق إنذار، لم تكن مأرب مع موعد كهذا. لكن لديها قابلية للنماء وامتلاك موقف وطني كبير يمكنه ان يثبت أعمدة الخيمة اليمانية المتهاوية.
 
وهذا الازدهار يأتي اولا على حساب صنعاء كعاصمة تاريخية تفقد ألقها ودورها السياسي والاقتصادي والثقافي تدريجيا بسبب مغامرة الانقلاب الحوثي- العفاشي. لكنه ايضا على حساب العاصمة المؤقتة عدن التي تمتلك كل المقومات الكامنة والجاهزة للاضطلاع بدور عاصمة اليمنيين ومعملا للنشاط الاقتصادي والتجاري الا انها تفوت الفرصة يوما بعد اخر نتيجة حسابات مناطقية وسياسية وتاريخية ضيقة وعقدة الضحية.
 
كما انه على حساب مدن يمنية اخرى كتعز والحديدة. والغريب ان الصحراء حيث العراء والرمل والعزلة باتت هي الملاذ بينما ضاقت مدن رحبة فيها الميناء والبحر.
 
وليست الظرفية فقط هي التي منحت مأرب هذا الدور لكنها عبقرية المكان ايضا وثقل التاريخ. ان ازدهار مأرب يعني عودة اليمن القديم المزدهر في ذاكرة اليمنيين وتجاوز محنة الاستلاب والاقتتال الديني منذ حوالي ???? عام.
 
الا ان مأرب تكاد تسقط في شرك ازدهار القطاع الخدمي وتشكيل بنية اقتصادية هشة تزول بزوال الظرفية الاقتصادية السياسية التي شكلتها.
 
هذا لأن الاستقرار واستمرار عجلة الحياة في مأرب ينشآن في إطار اجتماعي ثقافي سياسي يعبر عن الدولة الممكنة في الشمال بكل أدواتها المتوارثة مع حذّر شديد من تدفق النشاط الحزبي. ولهذا فأن ما يعتور الادارة العامة في مأرب مرحليا هو اعتوار متوارث ونمطي مع وجود إمكانية كبيرة لتقويمه نظرا للحافز الكبير في النجاح وثقل الرهان الإقليمي والمحلي في مأرب مقابل خطر الانهيار التام لمدن الجنوب.
 
لكن النقطة الأهم هو نشوء ازدهار مرحلي خارج الرأسمال الحقيقي لمأرب. تزدهر مأرب نتيجة تحولها الى قطب حاكم من ناحية. ولأنها الأقرب لصنعاء بالتالي تحولها الى ملاذ ومأوى انساني وسياسي واقتصادي. ولأنها تقع على الخط الواصل بين اليمن والسعودية واستمرار منفذ الوديعة مفتوحا عملياتيا.
اي ان نقاط القوة الفاعلة فيها هي ثقلها السياسي ووقوعها على الطريق لما للطريق من أهمية استراتيجية وكذلك لأنها قريبة مِن صنعاء ومن كتلة سكانية كبيرة. وهنا باتت مأرب الصحراء تنافس الحديدة الميناء على سبيل المثال او تنافس وتتجاوز صعدة السلة الغذائية لمناطق الشمال.
 
ولا يمكن اغفال الكرت الرابح حاليا لمآرب وهي كونها عاصمة نفطية كبيرة وهذا أسهم في حرص مبكّر على الحفاظ عليها لاستمرار حليبها الأسود، بالمقابل هل لمأرب ان تفكر لما بعد الحرب وان تديم هذا الازدهار وتكثيف من حضورها الوطني سياسيا واقتصاديا وثقافيا؟
لا اريد الخوض كثيرا في البعد السياسي وسأكتفي فقط بالإشارة الى ان تقديري الخاص للثقل السياسي لمآرب يكمن في دفعها وتمسكها بخيار الفيدرالية للتموضع جيدا في المستقبل اليمني ويمكنها ان تتآزر مع محافظات اخرى في هذه النقطة كتعز والحديدة وذمار على الأقل في الشمال وربما ابين وشبوة في الجنوب.
 
ويهمنا كثيرا الجانب الاقتصادي لأنه رافد لبقية النقاط ومكمل ومرجح، الخلل الحالي هو ان هناك ريع ناتج من الحركة التجارية التي تفجرت في مأرب في وقت وجيز. ومخاطر هذا الريع هي التالية.
أولا ان الاستقرار الأمني هش جدا لان مدافع العدو الحوثي على أبواب المدينة في صرواح. كما ان منشئات النفط لا تؤمنها الا بطاريات صواريخ التحالف العربي وأمنها مرهون ببقاء التحالف وحضوره عسكريا.
 
ثانيا ان اي اختلال في التوازن السياسي في المدينة سيقود الى احتراب ونزعات مناطقية بين مأرب وبقية المحافظات. كما ان استقرار مأرب مرهون بشخص المحافظ الذي أبدى شكيمة ورجاحة عقل ومن دونه قد يختل التوازن البيني في مأرب لوقت عسير.
 
الى ذلك ان مأرب هي منطقة ذات حضور عسكري كثيف ومعظم القاطنين فيها هم من الرجال الجنود وهؤلاء يستهلكون منتجات قادمة من خارج مأرب منها القات وينفقون فيه ثلث دخلهم تقريبا اي ان ثلث الريع التجاري سيذهب الى مناطق زراعة القات. وهي مناطق تتواجد تحت سلطة الحوثي.
 
واهم من هذا، توسع النشاط التجاري الحاصل في مأرب يتم في ظل شلل الوعاء الضريبي. وهذا لن ينفع المحافظة كثيرا ويمنحها مداخيل مستدامة تسمح بعملية تنموية مستقلة.
 
وعليه، لا بد من استثمار نقاط قوة المنطقة اقتصاديا. فمأرب اولا الارض والإنسان. وعليها ان تستثمر في الزراعة والزراعة الصناعية وتنمية قطاعات إنتاجية وليست فقط استهلاكية تجعل من مأرب مولا كبيرا في الصحراء مرهونا بحالة الحرب وشلل المدن الاخرى ويعتمد كليا على منافذ دول الجوار.
 
كما ان عليها ان تنشط قطاع التعدين والأحجار. وعليها ايضا ان تهتم بالصناعات التحويلية والبتروكيماويات وصناعات البلاستيك توفير قاعدة إنتاجية تسمح بالاستدامة الاقتصادية. ولا ننسى الصناعة السياحية واستثمار التاريخ وهذه نشاط أمن بيئيا ويشغل عمالة كبيرة، دون نسيان إمكانية استثمار في الطاقة الشمسية.
 
لكن كل هذه الأفكار لن تتم الا بتوفير بيئة تعليمية تتجاوز المألوف اليمني. اولا استكمال العمل في الجامعة في مأرب وفتحها على بقية المحافظات لرفع مستوى المنافسة وتقديم امتيازات للطلاب من مسكّن وإعاشة. ثانيا انشاء صندوق خاص بالابتعاث يزود المحافظ واليمن بكوادر مؤهلة خارجيا تلبي احتياجات سوق عمل المستقبل خارج تخصصات الدراسات الاسلامية وعلوم القران.
 
بهذه الخطوات - التي لن يكون من السهل تنفيذها نتيجة للوضع الاقتصادي اجمالا وصعوبات زحزحة اللوائح والتشريعات وحالة المركزية الغائبة والأنانية الجغرافية لبعض المدن وغياب مشروع اعادة إعمار والضبابية التي تحيط بمشروع الفيدرالية - تستطيع مأرب ان تجعل بقية المدن في حاجتها وان تشكل اقتصادا لما بعد الحرب وما بعد النفط.
 
وفِي الأخير، على مأرب ان تسهم في كسر عزلتها عن محافظات الجبال وان يتم تشكيل محور مأرب تعز مرورا بالبيضاء وإب او الضالع وسيكون لها سوقا كبيرا ورافدا سكانيا واقتصاديا لا ينضب. كما ان أتصال مأرب ببحر العرب هو مجال تنفسها. والا ستظل مخنوقة تتنفس مؤقتا وتعود الى سباتها تحت الرمال الجميلة الناعمة.
 
*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر