قُتل الرئيس اليمني السابق، علي عبدالله صالح، بعد يومين من اندلاع المواجهات المسلحة بين قواته ومليشيات الحوثي في صنعاء، على خلفية اقتحامها جامع الصالح. وسيغير قتل صالح حتماً معادلة الحرب، بعد خروج أحد أطرافها القوية، كما سيغير شكل التحالفات المستقبلية بين القوى السياسية اليمنية وحلفائها الإقليميي.
 
 إذ كشفت التغطية الإعلامية الخليجية لمعارك حرب صنعاء ومقتل صالح عن تحيزات واضحة في مواقف هذه القوى، فيما تفيد مواقف حلفاء صالح وخصومه على الأرض بأن مقتل الرئيس السابق كان قراراً سياسياً منها، ولم يكن نتيجة سوء تقديرات صالح في إدارة معركته مع جماعة الحوثي، ولا تفوّق الأخير عليه، وأن من صاغت نهاية صالح هي القوى السياسية اليمنية والقبلية والعسكرية والقوى الإقليمية المتحالفة معها، فقد أدركت أن ظروف المرحلة المقبلة تقتضي التخلص منه.
 
يدرك المتابع خريطة سير المعارك في صنعاء والمدن اليمنية بين المتقاتلين، منذ فجر الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أن الاختلالات الجزئية التي كانت تلوح في معسكر صالح بين وقت وآخر لن تؤدي إلى حسم الحوثيين المعركة بتلك السرعة، إذ أدار صالح معركته وفق استراتيجيةٍ تعتمد على إنهاك المليشيات، عبر تطويقها من مداخل صنعاء من خلال تمركز قوات الحرس الجمهوري في التلال المطلة على المدينة والمعسكرات المحيطة بها، بحيث يؤدي إلى خنق المليشيات في أحياء المدينة،  إلا أن صالح عوّل على قوات الحرس الجمهوري، باعتبارها الورقة الحاسمة في المعركة.
 
ولم ينظر إلى متغيرات ثلاث سنوات من الحرب على الحرس، وتغير ولاءات قياداته، إذ لم تشارك معظم قيادات الحرس الجمهوري في الصراع، في حين كان جنود الحرس منهكين، ولم يحصلوا على مستحقاتهم منذ أكثر من عام. في المقابل، لجأت المليشيات لإحكام سيطرتها على أحياء وسط العاصمة، وشل قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام باحتلال منازلها، لبث الذعر في القيادات التي بقيت محايدة، إلا أن المعارك ظلت في سياق الكرّ والفر، ولم يكن ثمة ما يشير إلى تغير ميزان القوى لصالح طرفٍ ما على المدى القريب.
 
بدأ تغيير موازين القوى لمصلحة الحوثي مع قرار التخلي عن صالح، والذي تجلى في موقف القوى القبلية، وليس فقط قبائل طوق صنعاء. ويعطينا بيان قبيلة حاشد، كبرى القبائل اليمنية، في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ملمحاً واضحاً بأنها قررت الحياد في الصراع منذ البداية. فعلى الرغم من انقسام القبيلة بين شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي والعربية السعودية وبين صالح والحوثيين، فإنها وجدت أن السعودية قلمت مشايخ القبيلة في مقابل تصعيد مشايخ القبائل الأخرى، ومن ثم فإن تبنّي السعودية صالح لن يقدم لها بدائل أفضل، كما أن الانحياز لصالح لا يصب في مصلحتها، لأنه في حال انتصر فإنه سيضمن تسوية مريحة لنفسه، وستكون القبيلة خاسرةً في الحالتين.
 
لذا دعت "حاشد" في بيانها الطرفين إلى التهدئة بانتظار المنتصر، ومع مقتل صالح اكتفت بمطالبة الحوثيين بالسماح لها بدفن صالح باعتباره ينتمي لها. ولم تتخذ قبائل طوق صنعاء، وهي التي تحسم في كل الحروب والصراعات هوية المنتصر في المدينة، موقفاً واضحاً منذ البداية. ولكن مع ارتماء صالح في أحضان السعودية، بمقتضى تصريحاته الأخيرة، الأمر الذي شكل خطأه القاتل، إذ عمدت معظم هذه القبائل التي كانت سابقاً موالية له إلى نفض يديها منه، فانتهجت قبائل نِهم الحياد بعد خطابه، وذلك لمقتل كثيرين من أبنائها في غارات التحالف، في حين لم تكن قبيلة خولان الموالية لصالح، على الرغم من إعاقتها مراتٍ إمدادات للحوثيين إلى صنعاء، قد نسيت دماء أبنائها في مجزرة الصالة الكبرى، في قصف التحالف يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
 
كانت أهم نقاط تفوّق صالح قدرته على ملامسة هموم أنصاره، وتحويل معركته مع الحوثيين من صراعٍ على السلطة إلى استعادة الدولة اليمنية والجمهورية، على العكس من هؤلاء الذين انحصر خطابها الديني في محاربة أعداء النبي. نجح صالح في خطابه الأخير في قناة "اليمن اليوم" في بث الحماسة بين أنصاره وتحريك الشارع في صنعاء ضد الحوثيين، عبر استنهاض أحلام دولتهم المنهوبة، ودغدغة أحلام استعادة الجمهورية التي انقلبت عليها الجماعة، وحشد اليمنيين للانتصار على "جماعة منتقمة" بحسب وصفه.
 
اعتقد صالح أنه بعد نجاح الحرس الجمهوري في تطويق الحوثيين عسكرياً في أحياء صنعاء، سيلعب الأهالي الدور الحاسم في القضاء عليهم، وهو ما أدركه هؤلاء فعمدوا إلى عزل صالح وأنصاره إعلامياً باحتلال قناة اليمن اليوم، وحظر جميع المواقع التابعة لحزبه المؤتمر الشعبي العام، وأربكوا الأهالي في العاصمة، وفرضوا إعلام الجماعة مصدرا وحيدا لأخبار القتال، وخوفاً على حياتهم من انتقام جماعةٍ لا ترحم، فضل الأهالي النأي بأنفسهم عن الصراع.
 
لم يكن تأييد السعودية صالح، وتسويق إعلامها له بطلا يمنيا سوى رسم نهاية مؤكدةٍ له، فعلى الرغم من توصيفها معركته بانتفاضة شعبية معلنة استعدادها لتغطية جوية لمعاركه، فإن ذلك في النهاية لم يصب في صالحه، بل أثار حفيظة كثيرين من حلفائه، كالقبائل وبعض القوى الشعبية، ولا يبدو أن السعودية كانت معنيةً بنتائج اصطفافها الظاهر مع صالح؛ فالسعودية التي دخلت، في مرحلة سابقة، في مفاوضات مباشرة مع جماعة الحوثي في "ظهران الجنوب"، لم يكن يعنيها المنتصر في معركة صنعاء، حتى مع إدراكها أن التعامل مع جماعةٍ بلا رأس سياسي صعب، وأن صالح حليفٌ قديمٌ، وسيقبل تسوية تفرضها السعودية.
 
قدّمت السلطة الشرعية، ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي ونائبه الفريق علي محسن الأحمر، نفسها قوة مؤيدة لحرب صالح، متماهية مع الخطاب السياسي السعودي، لكن ما جرى على الأرض، وخصوصا من القيادات العسكرية الشرعية، كان ترتيباً للقضاء على صالح، وهو ما تجلى في تصريح المتحدث باسم الجيش التابع لهادي، إذ صرح أن الجيش والمقاومة الشعبية غير معنية بالحرب بين شريكي الانقلاب.
 
ولم تكتفِ القيادات العسكرية الشرعية بذلك، بل عمدت، مع المقاومة الشعبية، في معظم مناطق المواجهات إلى تعطيل المعارك ضد الحوثي، وبدلاً من استغلال انشغال المتحاربين لإحراز تقدم على الأرض، خصوصا بعد إعلان الحرس الجمهوري الانسحاب من معارك تعز، وتفجر اشتباكاتٍ بين الحرس والمليشيات في معسكر الاستقبال في منطقة الحوبان ومعظم المناطق اليمنية، إلا أن هذه القيادات لم تحرّر مدينة تعز، باعتبار أنه لا علاقة لها بحرب الانقلابيين، ولم تخفف الضغط على صالح.
 
منذ اندلاع الحرب بين الحوثيين وصالح، وتبني السعودية معركة صالح، وقف حزب التجمع اليمني للإصلاح على الصعيد الرسمي محايداً، ولم يصدر بياناً إلا بعد يوم من مقتل صالح، وجاء باهتاً، ولا يعكس جسامة الأحداث التي عاشتها صنعاء، ما قد ينبئ باحتمالية التوجه إلى تحالف سياسي غير معلن مع جماعة الحوثي. وبالطبع ليس حباً بالحوثيين، عدوه الأيديولوجي، وإنما لإداركه أن انتصار صالح سيعني خروجه من المشهد السياسي وتوقف الحرب، في حين أن نجاح الحوثيين في القضاء على صالح في هذه المرحلة سيضمن لها في المستقبل خوض حرب طائفية.
 
 انعكس شكل التحالف غير المعلن في مواقف النخب السياسية والإعلامية لحزب الإصلاح من حرب صنعاء، ثم مقتل صالح، فعلى الرغم من انقسام هذه النخب بين مؤيد لحرب صالح، كقيادات الحزب في السعودية التي تبنّت الخطاب السعودي، معتبرة صالح بطلاً شعبياً، ونخب الحزب في قطر وتركيا التي انحازت منذ البدء لانتصار الحوثيين، ولم تكتف بتجريم كل من يؤيد صالح، أو يتعاطف معه، وتوصيفه بأنه مخبر لصالح، وخائن لثورة فبراير، بل ذهبت بعيداً بتمني شنق الحوثيين صالح في باب اليمن. انعكس موقف حزب الإصلاح، وموقف قياداته المنحاز للحوثيين، على أداء القيادات العسكرية والمقاومة المنتمية له التي فضلت، على ما يبدو، خيار التخلص من صالح.
 
حسمت تلك العوامل انتصار الحوثيين في المعركة وقتل صالح، وعلى الرغم من تضارب روايات كيفية نهاية الأخير، بدءاً بقصة هربه ومقتله خارج صنعاء على يد الحوثيين، أو قصة اغتياله في منزله، فالمؤكد أن الحوثيين لم يقتلوا صالح لضعفه، وإنما لأن مصالح القوى المتحالفة والمتصارعة اتفقت أخيراً على إزاحته، وطي صفحته، بمقتضى أن المرحلة المستقبلية تقتضي التخلص منه.
 
طي صفحة رجل أنهك اليمنيين بالحروب والصراع، وأنهك حلفاءه بتحالفاته وتقلبات مواقفه، ولكونه صندوقا أسود لا بد أن يقفل، كان لا بد أن يتم بإخراج مسرحي فريد، وإن كان يتطابق إلى حد ما مع مصائر رؤساء عرب ثارت عليهم شعوبهم، إلا أن رجلا مثل علي عبدالله صالح، متعدد الوجوه والاحتمالات، انقسم اليمنيون بشأن مقتله كما انقسموا في أثناء حياته، حزن يمنيون كثيرون، منهم من وقف ضد صالح في حياته وضد أطراف الحرب، لأنهم يخشون من أيام سوداء مقبلة، فيما لم يفكر المنتقمون إلا بدورة جديدة من العنف، تطل الآن، سيتولون هم كالعادة التبشير بها وقيادتها مع أضدادهم.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر