المجتمعات التي تحكمها توليفة من العصابات، كالمجتمع اليمني، تُصبح مُختبراً مفتوحاً لقتلٍ متنوّعٍ، فإضافة إلى السلع مُنتهية الصلاحية التي تتدفّق إلى الأسواق المحلّية، سواء الغذائية أو الدوائية، والتي تضرّ بحياة اليمنيين، تنشط تجارةٌ أكثر خطورةً وتهديداً لأرواح اليمنيين، مُمثّلة بالسلع المحظورة والفاسدة، التي تدخل إلى اليمن من طرق مختلفة، وربّما تمثّل شحنة المبيدات الزراعية المحظورة أو ما عرف إعلامياً بشحنة "السموم الإسرائيلية"، مثالاً على حجم التهديدات التي يتعرّض لها اليمنيون، وسلوك سلطة العصابات وحلفائهم.
 
لأسباب عديدة، حافظت تجارة التهريب في اليمن على ازدهارها، فظلّت السوقَ الرائجة، وإن كانت تدور ضمن اقتصاد الظلّ، بيد أنّ حالة الحرب وانعكاساتها على أمن المنافذ اليمنية أدّت إلى تنامي تجارة التهريب، فضلاً عن التصدّعات الاجتماعية، والانهيار القِيَمِي الناتج من الحرب، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتوسّع شبكات التهريب ونطاقاتها الجغرافية، كما أنّ تعدّد القوى التي تُشرف على المنافذ أدّى إلى غياب الرقابة على تدفّقات البضائع التي تدخل اليمن، وغياب معايير مُوحّدة لضبطها، إلا أنّ الأسوأ؛ انخراط سلطات الحرب نفسها في تجارة التهريب، من خلال أجهزتها الأمنية والعسكرية أو مراكزَ نفوذٍ في السلطة، إضافة إلى التجّار الموالين لها، ولشبكة وسطائها المُتعدّدين.
 
كما أنّ تحوّل أطراف الحرب إلى سلطاتٍ حاكمة أتاح تجديد آلية التهريب، وعدم الاكتفاء بالآلية التقليدية القديمة، ومن ثمّ توسيع قنوات التهريب وأسواقه. فإلى جانب دخول البضائع بطريقة غير شرعية، من خلال التهريب عبر المنافذ البحرية والحدودية، فإنّ سلطات الحرب لجأت إلى شرعنة ذلك بوسائل مختلفة، أمّا منح التجار تراخيص رسمية أو مزوّرة لاستيراد البضائع أو تغيير بلد المورد والشركة لضمان عدم تتبعها، إضافة إلى التحايل على القوانين الوطنية المُنظّمة لعملية الاستيراد، وتعطيل المؤسّسات الرقابية..
 
 
فذلك كلّه، أدّى إلى أن تشكّل تجارة التهريب، على اختلاف قطاعاتها، عماد اقتصاد قِوَى الحرب، إذ تضمن المداخيل التي تُحصّل عبر المنافذ لها موارد دائمة ومتجدّدة، كما أنّ سهولة التهرّب من تقييد مدخولات تجارة التهريب تُمكّنها من مراكمة ثرواتها، مقابل إعفائها من أيّ مسؤولية، وسهلت، من ثمّ، تجارة التهريب وحماية التجار، وأيضاً، تسويق البضائع في المناطق الخاضعة لها.
 
وطنياً، لا يمكن مسح وتحديد جغرافية التهريب وقنواتها الداخلية، حيث تتعدّد منافذها. أيضاً، تتضافر أجهزة سلطات الحرب، التي تسيطر على المنافذ البرّية والبحرية إلى جانب المنافذ بين المدن، في تنسيق تجارة التهريب، إضافة إلى الشبكات المحلّية العابرة لمعسكرات الحرب، التي تعمل هي الأخرى على تنظيم عمليات التهريب، وفي حين ظلّت تجارة التهريب جزءاً من اقتصاد قِوَى سلطة المجلس الرئاسي، التي تسيطر على المنافذ في المناطق الخاضعة لها، فإنّ تلك التجارة شكلّت اقتصاداً حيوياً بالنسبة لجماعة الحوثي، لافتقارها موارد استراتيجية؛ الغاز والنفط، تدعم خزينتها المالية، فاحتفظت تجارة التهريب بمركزيتها في سياق تنويع مواردها.
 
 وخلافاً لتجارة المخدّرات والحشيش، التي تتورّط فيهما الأجهزة الأمنية والعسكرية لسلطات الحرب التي تديرها في الظلّ، فإنّ التجارة في قطاع المبيدات الزراعية المحظورة، والأسمدة الكيمائية، تُوفّر لها مجالاً واسعاً للإثراء، وأيضاً، حرّية الحركة والسيطرة على السوق، إضافة إلى حاجة الأسواق المحلّية للمبيدات الزراعية، لأنّ اليمن بلد زراعي في المقام الأول، ومن ثمّ تُمثّل المبيدات سوقاً دائمةً، وعلى عكس قِوَى سلطة المجلس الرئاسي، التي لم يرشح حتّى الآن تورطها بشكل مباشر في تجارة المبيدات الزراعية المُهرّبة.
 
 
فإنّ هيمنة جماعة الحوثي من خلال بعض التجّار الموالين لها على السوق المحلّية للمبيدات الزراعية، تجعلها طرفاً في هذه السوق، إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى جانب وسائلها سلطةَ أمرٍ واقعٍ في تنظيم عملية تهريب المبيدات الزراعية أو تسهيلها وحماية التجّار، فضلاً عن تعطيل الجماعة للمؤسّسات والجهات الرقابية التي تُشرف على المبيدات الزراعة، مثل الإدارة العامة لوقاية النبات، ووقف مختبر الصحّة النباتية، إضافة الى دور أجهزتها سلطةَ أمرٍ واقعٍ في قضايا التهريب، والمساءلة القانونية والمجتمعية.
 
لم يكن تسهيل جماعة الحوثي دخول شحنة المبيدات الزراعية المحظورة، من منفذ مدينة ذمار الذي تشرف عليه، سابقتها الأولى، فقبل خمس سنوات، أشار تقرير برلماني لمجلس نوّاب صنعاء إلى دخول أكثر من 300 طنّ من المبيدات الزراعية المحظورة إلى المناطق الخاضعة لها، وبحسب التقرير، ارتبطت شحنة المبيدات حينها بمؤسّسة بن دغسان للتجارة العامة والخدمات الزراعية، التي يرتبط مالكها بعلاقات سياسية مع قيادات بارزة في الجماعة.
 
إلا أنّ اللافت في أخر قضية للمبيدات، هو تحولّها إلى قضية رأي عام خرجت عن سيطرة الجماعة، إذ كُشِفَتْ وسائل إدارتها لتجارة المبيدات الزراعية، والجهات المتورّطة، مما سلّط الضوء على مراكز النفوذ المتعدّدة داخل الجماعة وشبكاتها، من النافذين في السلطة إلى التجّار الموالين لها، فقد أكدّت الوثيقة التي سُرّبت، وهي محضر تحريز المبيدات الزراعية المحظورة في منفذ مدينة ذمار، عرقلة أجهزة الحوثي، الأمنية والاستخباراتية، عملية ضبط الشحنة، مما يعني، في ظلّ ضبابية إجراءات الجماعة وحالات الفساد، إطلاق الشحنة في مقابل تحصيل رسوم الجمارك.
 
كما كشفت الوثيقة التدخّل السافر لأجهزتها الاستخباراتية في عمل وزارة الزراعة والريّ، وتقييد صلاحياتها، وهي الجهة الرسمية المعنية بالزراعة والمبيدات، ناهيك عن تحييد الإدارة العامة لوقاية النبات باعتبارها الجهة المتخصّصة في تقييم الشحنة ومدى تطابقها مع معايير السلامة المتوافق عليها بموجب القانون اليمني، إضافة إلى الوسائل التي لجأت إليها لها جماعة الحوثي في حماية المتورّطين في القضية، ومنهم، بحسب الوثيقة، مالك مؤسسة بن دغسان، رغم ضلوعه، بحسب تقارير سابقة، في دفن كمّية من المبيدات الزراعية المحظورة في منطقة الجراف في مدينة صنعاء، فيما حرّكت أجهزتها الأمنية لملاحقة النشطاء المُندّدين بالجريمة.
 
ومع أنّ الجماعة حاولت امتصاص الغضب المجتمعي والشعبي، في المناطق الخاضعة لها، حيال شحنة المبيدات المحظورة، بإصدار وزارة الزراعة والمياه والري بيان أشار إلى أنّ الشحنة ليست سامّة، فإنّ تورط بعض المسؤولين في الوزارة يُفقِدُ البيان مصداقيته، إضافة إلى سوابق الجماعة في تمرير صفقات شحنات مبيدات فاسدة ومحظورة، في المناطق الخاضعة لها، وتعطيل أيّ دور للجهات القضائية في متابعة هذه القضايا وتحويل المتورّطين إلى المحاكم، مقابل عرقلة القضايا كلّها وإغلاقها.
 
 
ومن ثمّ تعطيل مطالب المجتمع بكشف الحقيقة، فيما تصدّرت أجهزة الجماعة الإعلامية والأمنية لتمييع القضية، ومنع أعضاءَ في مجلس النوّاب من التحقيق في شحنة المبيدات المحظورة، وإرهاب بعضهم، فاشتُبِهَ في تسميم النائب أحمد سيف حاشد بعد إثارته القضية في مجلس النوّاب ووسائل التواصل الاجتماعي، فيما دفعت الجماعة أجهزتها القمعية لملاحقة الكُتّاب واعتقالهم.
 
 
 فعلى خلفية كتابات عن الشحنة، ونشر وثائق عديدة، تدين المتورّطين في الجماعة ووزارة الزراعة وتاجراً بارزاً موالياً للحوثيين، اعتقل جهاز الأمن والمخابرات، الإعلامي أحمد العراسي، في 27 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، وأخفاه في سجونه، وإذا كانت قضية المبيدات الزراعية المحظورة كشفت رأس الجبل العائم في طرق قتل اليمنيين، فإنّه لا يمكن السيطرة على أبعاد القضيّة وتداعياتها الكارثية على حياتهم.
 
ختاماً، الجريمة واضحة على اختلاف المتورّطين فيها، إذ إن تهريب مبيدات زراعية محظورة وفاسدة، وتسويقها في الداخل اليمني من أيّ سلطة، يعني إطلاق سلاح شامل يستهدف حياة اليمنيين، بتلويث المنتجات الزراعية بالمواد السمّية، إلى جانب الآبار والأراضي الزراعية.
 
وفي ظلّ الأزمات الاقتصادية التي يُواجهها المزارعون في اليمن، وتأثير التغيرات المناخية على قطاع الزراعة، فإنّ هذه التحدّيات تجعل المزارعين يلجأون إلى خياراتٍ بديلة لضمان هامشٍ ربحي من خلال شراء المبيدات المُهرّبة، خاصّة مع ارتفاع أسعار المبيدات الزراعية القانونية، وعدم توفير سلطات الحرب وسائلَ لدعم المزارعين مادياً وأدائيّاً، إلى جانب غياب الرقابة على المنتجات الزراعية المعروضة في الأسواق، وعدم توعية المزارعين بمخاطر المبيدات المُهرّبة، وهو ما يعني استمرار تفشي حالات الإصابة بالسرطان في اليمن وارتفاع معدلاتها.
 
وإذا كانت مدينة صنعاء تحتلّ النسبة المئوية الأعلى، بحسب تقارير محلّية، فيمكن تقصّي بعض أسباب ذلك في تفشّي المبيدات الزراعية المحظورة والفاسدة، وتغلغلها في غذاء اليمنيين، إلا أنّ غياب إجراءات رادعة تطاول تجّار الموت، وعصابات السلطة المتواطئة معهم، يعني الاستمرار في قتل اليمنيين.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر