لا سلام ولا كلام


عبد الحليم قنديل

في وقت ما، وبعد حرب أكتوبر 1973 بالذات، كانت نظم عربية تتاجر بنصرة فلسطين، وجعلها رخصة مفتوحة لتيسير قمع شعوبها، ثم شحب الاهتمام الرسمي عموما بالقضية الفلسطينية، وصارت مجرد قرار باهت في بيان متحفي يصدر دوريا عن جامعة عربية ميتة، إلى أن بلغنا قاع القاع، وتحولت النظم بصورة شبه علنية إلى التواطؤ المباشر مع أمريكا وإسرائيل، وهو ما يفسر رد فعلها البارد على قرار ترامب إعلان القدس عاصمة أبدية موحدة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي.

وربما لا جديد في الموقف الأمريكي، سوى التبجح والصلافة، ودهس الحكام العرب، فما بين أمريكا وإسرائيل حالة اندماج استراتيجي.

وقد قررت إسرائيل ضم القدس المحتلة رسميا في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وتبعتها واشنطن في أواسط التسعينيات، وقرر الكونغرس الأمريكي نقل سفارة واشنطن رسميا من تل أبيب إلى القدس، صدر القرار في 1995 مع وقف التنفيذ إلى حين، وأعطى سيد البيت الأبيض حق التمهل إلى الوقت المناسب، وهو ما فعله ثلاثة رؤساء قبل ترامب، وبدواعي التخوف على المصالح الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي، إلى أن اطمأنت واشنطن تماما، وقدرت أن ردود الفعل المتوقعة صارت قريبة من نقطة الصفر.

 وحصلت على تعهدات ضمنية من نظم عربية أساسية، تقمع أي رد فعل غاضب من الشارع العربي بالذات، وتجعل طريق ترامب سالكا إلى إتمام الجريمة، والضحك على ذقون الناس بوعود «صفقة القرن» إياها، وهي ليست أكثر من حزمة أوهام، باعها حكام عرب لشعوبهم، وقادوا في إعلامهم المسموم حملات كراهية للفلسطينيين واستحباب لإسرائيل، على أمل أن يرضى عنهم ترامب، ويستر عوراتهم، فإذا بالعورات تتكشف جميعا، وتسقط آخر أوراق التوت، ويسقط كل ما قيل عن صفقة ترامب، وتسقط معه أوهام الذين وعدوا بالسلام الأخير على الجبهة الفلسطينية.

نعم، لم يعد في القصة ما يخفى، ولم يعد بين شعوب الأمة وعدوها حاجز ولا ستار، ولا فرصة لتلاعب بألفاظ ولا بأوهام، ولا قيمة لقرارات تصدر عن جامعة عربية ولا عن منظمة تعاون إسلامي، ولا لتحذيرات سلطة فلسطينية، أقرب إلى قبضة هواء، لا يستطيع رئيسها نفسه أن يقوم من مقعده بدون إذن من ضابط إسرائيلي، ولا أن يعالج نفسه من نزلة برد بدون وصفة إسرائيلية، ولا أن يواصل إيهام شعبه باسم دولة فلسطينية مرتقبة، ولا باسم قرارات دولية بالمئات صارت حبرا على ورق، ولا باسم «حل دولتين»، لم يعد ممكنا ولا واردا، لا بالمفاوضات، ولا بمضغ الأوهام، ولا بمصالحات ومساومات على كعكة سلطة وهمية، لا تعدو أن تكون حكما ذاتيا بائسا، للسكان دون الأرض.

 يريدون توسيعه قليلا، مع بقاء سيادة دائمة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، ومنح الفلسطينيين مليارات الدولارات «خلو رجل» بديلا عن أرضهم وحقوقهم بما فيها القدس، ونقل فوائض فلوس الخليج إلى ما تبقى من غزة والضفة الغربية، واعتبار اللعبة العبثية «صفقة قرن»، تنهي وجود القضية الفلسطينية إلى الأبد، وتعطي إسرائيل سلامها الدائم، وتضمن استقرار مملكتها الاستيطانية الإحلالية.

نعم، لم يعد من معنى حتى لغضب عابر، ولا لسلاسل مظاهرات تشتعل في فلسطين المحتلة، أو في عواصم بعيدة، ليس من بينها عواصم العرب الكبرى المسكونة بالقهر، التي تتواطأ قصور الحكم فيها مع إسرائيل سرا وعلنا، وتقمع أي صوت يغضب لنفسه ولشرفه ولدينه ولأمته، وللقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، وإن سمحت أحيانا بأصوات مفرقة لتنفيس البخار المحبوس، وقد صار ذلك كله بلا مغزى ولا أثر، ولا وظيفة سوى تكثيف الغشاوات على الأبصار، فالقدس لن تعود بالبكاء، ولا فلسطين ستعود بالصراخ، ولا بالسلام واجترار الكلام.

وصورة الصراع باتت ساطعة كالشمس، أمريكا وإسرائيل ومعهما رجعية وتواطؤ النظم العربية على جانب، وفي الجانب الآخر شعوب وحركات مقاومة، والسلطة الفلسطينية الوهمية، مجرد امتداد لرجعية وتواطؤ النظم العربية، وسواء احتكرتها «حماس» أو «فتح»، أو كانت سلطة الخيبة قسمة ومصالحة، أو تمهيدا مضافا للعودة إلى دائرة المفاوضات اللعينة ذاتها، التي أخذت من عمر الفلسطينيين ربع قرن بعد اتفاق أوسلو 1993، ولم تنته سوى إلى هوان فوق الهوان، وإلى توحش الاستيطان وعملية تهويد القدس، وإلى تزوير قضية الشعب الفلسطيني، وتصوير الفلسطينيين كجماعة بؤس تنتظر المعونات، وليس كشعب مكافح لاسترداد وطنه المقدس المغتصب.

وقد سدت السبل السلمية جميعا في وجهه، وتخلى عنه الأشقاء قبل الغرباء، ولم يعد بوسعه سوى سلوك سبيل واحد، أن ينتصر وينتصف لنفسه، وأن يزيح من طريقه سلاسل وقيودا، تلجم حركته، وتحد من انطلاق طاقاته، وتخدعه عن حقه بدعوى السعي إليه بالتفاوض.

وقد آن الأوان، إن لم يكن تأخر، وصار لازما أن تسقط القيود كلها، وأولها قيد السلطة الفلسطينية المفروض، التي لابد من قرار بحلها أولا، وإسقاط الحاجة إلى تسول المعونات الأمريكية والأوروبية والخليجية، وتحرير القرار الفلسطيني من الارتهان لإسرائيل بالتنسيق الأمني، ومن الارتهان لأمريكا بالمعونة المالية، ورد الاعتبار لمبدأ المقاومة وحدها، وبكافة صنوفها الشعبية والدبلوماسية والمسلحة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كإطار لتنظيم المقاومة، وضم «حماس» و»الجهاد الإسلامي» إليها، وتكوين جيش تحرير موحد انطلاقا من «غزة» المحررة نسبيا، فلا قداسة تعلو على سلاح المقاومة في هذه اللحظة، ولا مهمة تتقدم على واجب الوقت الممكن جدا.

ولا فريضة أوجب من إشعال انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة والقدس، هي وحدها الكفيلة بخلق وقائع جديدة على الأرض، تعيد صياغة مشهد الكفاح الفلسطيني، وتستعيد الألق لقضية الشعب الفلسطيني المنسية، وتكلف دولة الاحتلال أثمانا باهظة، وتفضح رجعية وتواطؤ النظم العربية، وتبث الروح من جديد في شعوب الأمة، وتدفعها لحركة من أجل القدس ومن أجل فلسطين، ترغم نظم التطبيع على طرد سفراء إسرائيل، وترفع شعار المقاطعة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتعزل كل من يتعامل مع العدو سرا أو علنا، فالمقاومة وحدها هي سبيل الشعب الفلسطيني المؤثر، والمقاطعة أولا هي سبيل شعوب الأمة من حول فلسطين، وبغير المقاومة والمقاطعة، سوف تصير الأمة عصفا مأكولا، ويصير الغضب العابر ـ على نبله ـ تواطؤا دائما، لا ينتهي بأوضاعنا سوى إلى مزيد من الهوان.

لا نريد أن ننفث غضبا في هواء، بل أن نحول طاقة الغضب إلى قوة تصحيح للأوضاع المختلة، فلم نجن من أوهام السلام سوى «الخيبة بالويبة»، وسوى أن تحول العرب إلى حفنة من غبار، وقد سبقت مصر الدولة غيرها إلى ما يسمى «معاهدة سلام»، حاربت مصر إسرائيل على مدى ربع قرن من 1948 إلى 1973، ثم سالمتها إلى مدى يقارب نصف قرن إلى الآن، أي أن مدة الحرب كانت نصف مدة السلام الموهوم، وكانت الفوارق ظاهرة في حال مصر، بلغت مصر ذروة قوتها في زمن الحرب، ثم صارت إلى الضعف المريع في عقود ما يسمى بالسلام، كانت مواردنا في ذروة التعبئة زمن الحرب، وكانت مصر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التصنيع والتنمية والتقدم والتكنولوجيا إلى ما بعد حرب 1973.

 في حين نهبت مصر بعدها كما لم تنهب في تاريخها الألفي، وكان الفساد والإرهاب صنوان لزمن السلام إياه مع إسرائيل، وهو ما يجري تصحيحه جزئيا الآن، بعودة الجيش المصري إلى حدودنا التاريخية مع فلسطين المحتلة، ودهس وإلغاء مناطق نزع السلاح التي كانت مفروضة بمقتضى ملاحق المعاهدة المشؤومة، وخوض حرب التحرير الثانية ضد جماعات الإرهاب الحليف الموضوعي لإسرائيل، ولا يزال الشوط طويلا للتحرر من القيود، وتصفية امبراطورية الفساد التي تنهب وتعظ، والعودة إلى تصنيع حربي ومدني شامل، وإطلاق طاقات الشعب المصري المحبوسة، ورد الاعتبار لموقف الشعب المصري والجيش المصري المعادي لإسرائيل بالخلقة، وبدون أن نتورط بالضرورة في حرب غير محسوبة، فليست الحرب النظامية هي المطلوبة الآن، بل مقاطعة العدو الإسرائيلي، وطرد سفيره من القاهرة، وجعل المقاطعة سندا لمقاومة متصلة، يقدر عليها الشعب الفلسطيني.

 فوجود إسرائيل في ذاته خطر على الوجود المصري في ذاته، وفلسطين كانت وتظل قضية وطنية مصرية، تماما كما هي قضية قومية عربية، والمقاومة الشعبية والمسلحة وحدها، هي التي تهزم إسرائيل وتكسر أنفها، وترغمها على ترك الأرض المحتلة بدون تطبيع ولا صك استسلام، وعلى نحو ما جرى في جنوب لبنان عام 2000، وفي الجلاء عن غزة بعدها بخمس سنوات، وبقوة انتفاضة الفلسطينيين الثانية، التي حملت اسم «انتفاضة القدس»، والتي لا حل بغير استئنافها الآن، وهو ما يستطيعه الشعب الفلسطيني بجدارة واقتدار، وقبل شهور قليلة، هزم الشباب الفلسطيني المقدسي صلافة إسرائيل وجبروتها في معركة المسجد الأقصى، وصنعوا المعجزة الرمزية الموحية ببسالتهم وتضحياتهم وصدورهم العارية، وقدموا الدليل الإضافي على بؤس التفاوض وعظمة المقاومة، وفتحوا طريقا بلا بديل لإسقاط صفقات ترامب الجديدة، وإسقاط أوهام المتواطئين معه في خدمة إسرائيل.


*القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر