مأزق أمريكا الإيراني


عبد الحليم قنديل

أيا ما كان رد واشنطن العسكري على عملية «البرج 22» في الأردن، فربما لن يتغير شيء كثير جوهري في معادلات اللحظة الفوارة في المنطقة، فأمريكا إلى تراجع متصل في الحضور والنفوذ، لن يغيره صخب وقعقعة السلاح برا وبحرا وجوا، بينما إيران في المقابل، تحاول استثمار ما جرى ويجري، وكسب دور حاكم في المشرق العربي والخليج بالذات، بعد نجاحها عبر عقود في مد حدودها الاستراتيجية إلى شواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر جنوبا.
 
وأفترض جدلا، أن الرؤوس الحامية في واشنطن، غامرت في الحسابات، وهاجمت البر الرئيسي لإيران، وهو ما لا يبدو مرجحا حتى ساعة كتابة هذه السطور، لكنه لا يبدو مستبعدا بالكامل، خصوصا أن عملية «البرج 22»، التي تمت بطائرة مسيرة من طراز إيراني، أدت إلى مقتل وإصابة عشرات العسكريين الأمريكيين، وهو ما وضع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في حرج غير مسبوق، مع تعاظم الجدال والمشاحنات بين حزبه الديمقراطي والحزب الجمهوري المنافس، وتعمد دونالد ترامب المرشح الأوفر حظا عن الحزب الجمهوري، أن يستثمر ما جرى لوضع بايدن في الزاوية الحرجة وقفص الاتهام، وإظهار ضعفه وتهاونه، وتركه لجنود أمريكا لقمة سائغة بيد جماعات موالية لإيران في العراق وسوريا.
 
وكانت جماعات ولاء إيراني عراقية، قد أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم، ثم تراجعت «كتائب حزب الله» العراقية في بيان لاحق، وأعلنت توقفها عن شن هجمات على القواعد الأمريكية، وأنها ستكتفي بواجب الدفاع إذا هوجمت، وهو ما بدا كرجع صدى للموقف الإيراني، الذي تنصل علنا من هجوم «البرج 22»، وأعلنت إيران كالعادة، أن الجماعات المؤيدة لها، تتصرف بقرارها المستقل، من دون إملاء من طهران، أو مراجعة لها، وهو ما دأبت عليه إيران منذ عملية «طوفان الأقصى» الفلسطينية، التي بادرت طهران لنفي علمها بها مسبقا، وهو ما كان صحيحا باعتراف واشنطن ذاتها، وإن حاولت إيران أحيانا قطف بعض الثمار.
 
وادعت دوائر في «الحرس الثوري الإيراني»، أن عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر الماضي، كانت من ردود طهران على اغتيال الأمريكيين لقائد «فيلق القدس» السابق اللواء قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد أوائل 2020، وبما استدعى دحضا سريعا من حركة «حماس»، التي أكدت استقلالية عملها وخططها وشخصيتها كحركة تحرير وطني فلسطينية، وكانت النتيجة الفورية، أن استدركت إيران الخطأ، وعادت إلى تأكيد نفي صلتها بتدبير «طوفان الأقصى»، أو العلم المسبق به، وبدا الكلام منطقيا، خصوصا مع تتابع الحوادث والعواصف، وصولا لعمليات اغتيال القائد الحمساوي صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية، واغتيال قادة من «حزب الله» وثيق الصلة بطهران، بل اغتيال عدد من قادة «الحرس الثوري» الإيراني في سوريا بغارات إسرائيلية، واغتيال بعض قادة فصائل عراقية ولائية بغارات أمريكية انتقائية.
 
ومن دون أن تقدم طهران على رد محسوس مباشر، تماما كما هو موقفها الفعلي من حرب الإبادة الجماعية في غزة، وإعلانها أنها لن تخوض حربا من أجل غزة، وإن أكدت على الدوام تأييدها ودعمها لحركات المقاومة الفلسطينية، ما قد يعني ببساطة أن أي هجوم أمريكي على أطراف خرائط النفوذ الإيراني مهما كانت شدته، لن يلقى بالضرورة ردا مباشرا فوريا من طهران، ربما حتى لو تضمن الهجوم الأمريكي اغتيالات مباشرة لعناصر قيادية إيرانية، أو حتى استهدافا مباشرا لمواقع مختارة في الداخل الإيراني، أو تدميرا لقطع بحرية إيرانية، ناهيك عن إضافة سلاسل عقوبات مالية واقتصادية جديدة على إيران وجماعاتها الرديفة، وعلى جماعة «حزب الله» اللبناني بالذات، وهو أقوى تهديد عسكري وجودي شمال كيان الاحتلال الإسرائيلي.
 
وقد لا يعني عدم توقع الرد الفوري، أن طهران قد تبتلع ما يجري دون تعقيب يجيء متأخرا، فلا تبدو إيران اليوم حريصة على الدخول في حرب مباشرة واسعة مع واشنطن، وهو ما يلتقي غالبا مع رغبات إدارة بايدن، التي قد تميل لحصر سلوكها في ردود متفرقة، ودون مستوى الحرب الإقليمية الشاملة، على نحو ما فعلت وتفعل في هجمات ضد قواعد الحوثيين باليمن، وما تفعله وقد تواصله في العراق وسوريا.
 
ورغم التقاء الطرفين الظاهر على عدم التورط في حرب شاملة، إلا أن مأزق أمريكا يبدو أكثر ظهورا، فقد ادعت منذ بدء حرب غزة، أنها تسعى لمنع توسع رقعة الصراع الإقليمي، إلا أنها تورطت بقواتها وأساطيلها في توسيع نطاق الحرب فعليا، بتكوين ما يسمى «تحالف الازدهار» في البحر الأحمر، ومن دون نجاح يذكر في جذب دول عربية أساسية للتحالف المذكور، فالدول العربية المعنية لها حسابات أخرى، ويعتقد بعضها أن وقف الحرب والعدوان الإسرائيلي على غزة، هو مفتاح إطفاء النيران متزايدة الاشتعال في المنطقة.
 
وهو ما تبدي واشنطن تجاوبا ظاهريا معه، وإن كانت لا تسعى إلى ضغط حقيقي على حكومة بنيامين نتنياهو لوقف حرب إبادة عشرات آلاف المدنيين العزل في غزة، بل تستمر بالمشاركة الفعلية الميدانية في حرب شلالات الدماء وزلازل الدمار، وتزويد ربيبتها إسرائيل بكل أنواع الأسلحة والطائرات والقذائف والقنابل الذكية والغبية، وتسرع في اتمام صفقة سلاح متطور كبرى للعدو بقيمة 20 مليار دولار، فيما يبدو بايدن عاجزا عن لجم وردع نتنياهو، الذي يورط أمريكا نفسها في هزيمة استراتيجية فعلية على الأرض الفلسطينية، وفي انحطاط أخلاقي وعزلة سياسية مخجلة على الصعيد الدولي، وفي تمرد ضمائر ومظاهرات ملايين غاضبة من بربرية وهمجية الحرب الوحشية.
 
وهو ما يشجع طهران على مواصلة رهانها في كسب نفوذ مضاف، وتحمل كل الخسائر المتفرقة على جبهات ما تطلق عليه «محور المقاومة»، فكلها خسائر تكتيكية لا تعوق الكسب الاستراتيجي، بل ربما تضيف إليه، فالأمر متعلق هذه المرة بالقضية الفلسطينية، والأخيرة لها وزن حاسم غلاب عند شعوب الأمة العربية كلها، بينما أغلب أنظمة الحكم العربية في واد آخر، لا يملك بعضها فرصة الجهر بالعداء المتربص بالمقاومة الفلسطينية وإنجازاتها، ولا فرصة التبجح برغبات مواصلة التطبيع، في مثل هذه الظروف إلى حد التحالف مع إسرائيل، التي تخذلهم وتفضحهم عند شعوبهم، ولا تبدي أدنى استعداد للتجاوب مع حلول من نوع «حل الدولتين»، أو إقامة كيان فلسطيني حتى لو كان منزوع السلاح، بل يرفض نتنياهو وحكومته أي نقاش في مثل هذه الموضوعات، ولا حتى على سبيل المناورة العابرة.
 
 
وهو ما يضع النظم التي عولت على واشنطن، في قفص الاتهام والانكشاف الكلي، ويضع أمريكا ذاتها في خانة بوار الخطط، وتأكيد العجز حتى عن إدارة الصراع لا حله بالضرورة، فقد تحطمت قواعد اللعبة المتصلة لعقود، قبل «طوفان الأقصى»، وبانت أصول التحالف المطلق بغير حدود بين واشنطن وتل أبيب، فيما ظهرت النظم الحليفة التابعة لواشنطن في حالة صفرية، وهو ما قد يوسع المجال أكثر لصالح طهران، التي استأثرت لنفسها بدعوى خدمة قضية الحق الفلسطيني، والعداء المعلن لكيان الاحتلال، واستفادت من تخلى أغلب الأنظمة العربية عن القضية، واستثمرت عقود الضعف والهوان العربي الرسمي، وملأت فراغا تركته خلفها النظم العربية، وتمددت وتمطت في عواصم عربية تضعضعت أحوالها، وقدمت نفسها بديلا للهيمنة الأمريكية.
 
ونسجت بدأب علاقات وثيقة مع روسيا والصين المناهضتين للهيمنة الأمريكية، ونجحت في تجاوزها والالتفاف على كثير من عقوبات «الضغط الأقصى» الأمريكية، ودخلت في منازلات مخفية ومرئية مع «الأرمادا» العسكرية الأمريكية، أسقطت خلالها أعقد وأغلى طائرة مسيرة أمريكية قبل سنوات، ثم بدا سلوكها محسوبا بعناية بعد خروج ترامب من الاتفاق النووي، وطورت إمكانات برنامجها النووي، ورفعت نسب تخصيب «اليورانيوم» في إطراد، وباتت جاهزة لصناعة وتفجير قنبلتها الذرية، مع قفزات برامجها الصاروخية وصناعات طائراتها المسيرة المتنوعة قليلة التكاليف، وأرغمت بعض خصومها الإقليميين على عقد اتفاقات معها برعاية التنين الصيني.
 
وهو ما عد تسليما ضمنيا بحقائق جديدة راكمتها إيران بصبر ودأب، وساعدتها تراجعات مفجعة في الحالة العربية العامة، أولها كان غياب مصر عن المشرق العربي بعد عقد ما تسمى «معاهدة السلام»، وثانيها كان إنفاق عشرات ومئات مليارات الدولارات على حملات تكفير الشيعة العرب، وتقديمهم كهدايا ومدد لقوة إيران، وثالثها كان المشاركة العربية في المجهود الحربي الأمريكي لغزو وتحطيم العراق، بما ترك فراغا استراتيجيا موحشا، تقدمت إيران لملئه ولا تزال، ودونما حقوق لوم مستحقة للقاعدين على الناهضين في صدامات الجغرافيا والتاريخ.
 
 
*نقلاً عن القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر