اليمن وخريطة ترضيات أممية


بشرى المقطري

في الحرب، وكذلك في السلام، تؤدّي المقدّمات الخاطئة إلى نتائج كارثية على المتحاربين، وقبلهم على المجتمع. وإذا كانت الحالة اليمنية خير مثال على فداحة حربٍ بلا أهداف، فإن لا طريق كما يبدو إلى سلام حقيقي، إذ لا زالت الدبلوماسية الأممية، وبعد عشرة أعوام من الحرب، تختزل حلّ الأزمة اليمنية بتقديم ترضياتٍ تلبّي مطالب الفرقاء والمتدخّلين.
 
ينطبق ذلك على الهدنات الإنسانية المتعاقبة التي تم تجديدها في العامين السابقين، وعلى خريطة الطريق الأممية. ومع أن من المبكّر التكهن بتوافق الفرقاء حيالها، إلا أن خطوطها العامة، سواء في شقّها السياسي أو العسكري، وكذلك الإنساني والاقتصادي، تتماهى مع إبقاء حالة الصراع، مقابل منح أطراف الحرب مكاسب، وبالطبع، على حساب اليمنيين.
 
مفاهيمياً، وكذلك إجرائياً، تُهيئ خريطة الطريق للانتقال من حالة الحرب إلى السلام، من خلال تدابيرها الشاملة وآليتها التنفيذية التي تعمل على تفكيك حالة الصراع، من ثم تؤسّس لأرضية مشتركة تمهّد للحل السياسي. بيد أن خريطة الطريق الأممية غير المعلنة تقوم جوهريا على بنود الهدنات الإنسانية السابقة، ما يعني إبقاءها على حالة الصراع، ومن ثم افتقارها لرؤية تحقّق سلاما مستداما، ناهيك عن فشلها في أبسط مهامّها بتحقيق اختراق سياسي بين الفرقاء، إذ تنصّ خريطة الطريق على وقف إطلاق النار بشكل دائم، وإعادة تصدير النفط، إلى جانب تدابير اقتصادية وإنسانية، تتبعها رعاية أممية للعملية السياسية، إلى جانب الترتيب لانسحاب القوات العسكرية السعودية من اليمن، وتتعدّد إشكالية تطبيق خريطة الطريق من غياب آلية لتنفيذ بنودها وتزمين بنودها وطرق معالجتها، إلى مدى التزام الفرقاء بتنفيذ بنودها، وكذلك تعقيدات الأزمة اليمنية، فضلاً عن التوترات الإقليمية الحالية، بيد أن الأسوأ نتائجها على المدى البعيد، إذ تحوّل معادلة القوة التي يشغلها أطراف الحرب إلى حتمية سياسية تفرضها على اليمنيين، إذ تمنح سلطات الحرب مشروعية قانونية، وبالتالي سياسية، لمأسسة سياستها السلطوية والاقتصادية على المواطنين، ناهيك عن سياسة عزل المناطق الخاضعة لها، ومن ثم تكريس سيرورة منفصلة، وكذلك مستدامة لكل منطقة يمنية، تعيق فرص استعادة الدولة اليمنية المركزية، ناهيك عن قيام سلطة موحّدة، إلى جانب هذا الاعتساف الذي يصادر حقّ اليمنيين في تقرير شكل دولتهم.
 
المعادلة السياسية التي يجري تثبيتها وفق حدودها الجغرافية الحالية، وكذلك امتيازاتها الاستراتيجية والاقتصادية توزّع ثقل القوى المحلية بشكل متباين، ومن ثم تغذّي دورات صراع بينية في المستقبل. ومن جهة أخرى، تكرّس خريطة الطريق اختلالات المعادلة السياسية والتفاوضية، سواء في بنودها أو في معالجاتها، ومن ثم قد تقوّض الأرضية الهشّة التي تبني عليها الدبلوماسية الأممية حلولها.
 
تثبت خريطة الطريق مركزية جماعة الحوثي في العملية التفاوضية والسياسية المقبلة، بحيث تعزّز موقعها طرفا مهيمنا، فإلى جانب ربط العملية السياسية بإرادة الجماعة وشروطها، ومن ثم قدرتها على تعطيلها، فإن التدابير الاقتصادية المعلنة كُيّف معظمها بحسب مطالب الجماعة، وما يعنيه ذلك من تعزيز مركزها السياسي التفاوضي، وإن كان امتيازها التفاوضي فرضته قوتها العسكرية، إلى جانب فاعليّتها وكيلا محليا لإيران، وكذلك استقلالية قرارها السياسي عن حليفها الإقليمي، مقارنة بخصومها المحليين، بحيث استطاعت فرض نفسها طرفا يمنيا يفاوض السعودية، سواء بتنفيذ مطالبها الاقتصادية أو بخروج القوات السعودية من اليمن، وإن كان من المبكّر التكهن بذلك، فيما تراهن السعودية على أن تدفع خريطة الطريق إلى ترتيب مخرج لحربها في اليمن، بتنفيذ اشتراطات الجماعة مقابل تعهّدها بحماية حدودها الجنوبية مع اليمن، إلى جانب إشرافها على العملية السياسية، ومن ثم تحولها من طرف في الحرب إلى وسيط، إلا أن هذه الحلول، في حال التوافق حولها، لا تعني قدرة السعودية على احتواء الجماعة، وقبولها بأن تكون مجرّد طرفٍ في السلطة المقبلة.
 
 فإلى جانب فشلها في هزيمتها العسكرية، وبسط سيطرتها على مناطق الكثافة في اليمن، بما في ذلك العاصمة صنعاء، فإن قيام الجماعة بدور عسكري مؤثّر في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من خلال تأثيرها على حركة الملاحة العالمية في البحر الأحمر كرّسها قوّة تهديد إقليمي، ما يعني أن من الصعب تحجيمها سياسياً في حدود الجغرافيا اليمنية، إلى جانب أن تأثيرها الإقليمي، بوصفها وكيلا لإيران، قد يعني توظيفها في جبهاتٍ أخرى مستقبلاً.
 
ومن جهة ثانية، يقلّل تنصّل الجماعة من تفاهمات التهدئة السابقة مع خصومها من التزاماتها بأي تعهدات حالية، خصوصا مع غياب ضماناتٍ تلزمها بتنفيذها على الأرض، فحتى مع قبولها خريطة طريق، وإن لم تعلن ذلك، فذلك لأن الترتيبات الاقتصادية والإنسانية المعلن عنها تصبّ في صالحها، بخلاف مشاركتها في العملية السياسية التي تستوجب قبلها تكييف بنيتها السلطوية، وكذلك أيديولوجيتها، وتعاطيها مع القوى المحلية، ما يعني حاجتها لوقت طويل لترتيب بيتها الداخلي، إضافة الى تعارض مرجعيّاتها في الحلّ السياسي مع مرجعيات القوى اليمنية الأخرى. ومن ثم فإن رغبة السعودية في إنهاء تدخّلها في اليمن، إلى جانب ضعف خصومها، يمنحان الجماعة أفضلية دائمة في تعطيل أي مسار تفاوضي لا يلبي تطلعاتها.
 
في المقابل، يمثل المجلس الرئاسي الطرف الثاني في المعادلة التفاوضية المحلية، وإن اقتصر دورُه على الشرعنة للتفاهمات بين السعودية وجماعة الحوثي التي شملت في بنود خريطة الطريق الأممية، ومن ثم تنحصر مهمّة المجلس بالالتزام ببنودها، من التهدئة مع الجماعة إلى الانخراط في العملية السياسية، بيد أن السعودية، وإن كانت القوة المهيمنة على القرار السياسي للمجلس الرئاسي، فإن الإمارات لا تقلّ عنها أهمية وتأثيراً في المعادلة اليمنية، بحيث تمتلك أدواتٍ فاعلة لإعاقة أي تفاهماتٍ سياسية، من خلال وكلائها المحليين، إذ إن تحييد الامارات من أي دور سياسي أو إشرافي في العملية السياسية المقبلة، بما في ذلك التدابير والمعالجات التي نصّت عليها خريطة الطريق، يعني تحجيمها في إدارة الملف اليمني، وهو ما سترفضه الإمارات.
 
ومن جهة أخرى، يمثّل تعدّد القوى المنضوية في سلطة المجلس الرئاسي عامل إعاقة للمسار التفاوضي، فتنميتها مراكز ثقلها العسكري والاقتصادي، وبالطبع السياسي الذي حققته جراء حالة التشظي في سلطة المجلس، يجعل أي تسوية سياسية لا تصبّ في صالحها، ستحدّ من قوتها وفعاليّتها، ومن ثم ستتمسك بامتيازاتها، التي تعني المحافظة على استقلاليتها السياسية، وكذلك الاقتصادية. ومن جهة ثانية، فإن غياب أي توافق يوحّد رؤيتها السياسية، بما في ذلك تناقض مرجعياتها للحل السياسي، يمثل عاملا آخر لتقويض المسار الساسي، بحيث يدفعها إلى إفشال أي تهدئة مع الجماعة، وذلك بالضغط لفرض شروطها، سواء بإحداث توتّرات عسكرية في بعض الجبهات، كما يحدث بين وقت وآخر، أو تصعيد توتّرات سياسية، كتحفّظ المجلس الانتقالي الجنوبي على خريطة الطريق، وتأكيده على مسار تفاوضي خاص بالقضية الجنوبية. يضاف إلى ذلك، وهو الأهم، الوجهة التي ستتحرّك بها الإمارات مستقبلا، إذ لن تكتفي بالمراقبة، خصوصا إذ كانت التهيئة للعملية السياسية جدّية، والتي تعني تحديد شكل اليمن المقبل، وملامح سلطاتها الذي يهمّها كقوى نفوذ إقليمية كما يهمّ السعودية.
 
تعوّل الدبلوماسية الأممية على التدابير الاقتصادية والإنسانية المتضمّنة في خريطة الطريق بأن تشكّل مقدّمة لتحقيق هدنة اقتصادية بين الفرقاء، وبالتالي، تمهد للعملية السياسية، إذ شملت التدابير المعلنة: إعادة تصدير النفط ودفع رواتب موظفي الدولة في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي، وتوسيع الرحلات التجارية إلى مطار صنعاء ورفع القيود عن ميناء الحديدة، وكذلك فتح طرق تعز.
 
بيد أن تباين هذه التدابير من حيث تعقيدها، وآلية معالجاتها، وكذلك الأطراف الفاعلة فيها يعني تنوّع إعاقات تطبيقها في الواقع، فعلى الرغم من أهمية إعادة تصدير النفط، بوصفه موردا اقتصاديا حيويا، بالنسبة لسلطة المجلس الرئاسي، خصوصا بعد تكبّده خسائر اقتصادية، جرّاء هجمات جماعة الحوثي على موانئ تصدير النفط في العام الماضي، فإن الجماعة، وإن أوقفت هجماتها على موانئ التصدير في ضوء ترتيبات وتفاهمات مع السعودية، يمكنها تحقيق مكاسب، فإن تشظّي سلطة المجلس الرئاسي وعدم امتلاكه قراره الاقتصادي، ناهيك عن تعدّد الفاعلين من القوى المحلية والقبلية إلى الإقليمية التي تحتكر الهيمنة على القطاع النفطي، تصديرا وإنتاجا، بالإضافة إلى فساد سلطة المجلس، يعني أن من الصعب ضمان سيطرتها على عملية تصدير النفط أو أن تساهم في تحسين الوضع الاقتصادي في مناطقها.
 
ومن جهة أخرى، تمثل قضية دفع رواتب موظفي الدولة في المناطق الخاضعة للجماعة شرطا أساسيا لمضيّها في العملية السياسية، إذ تعوّل على دفع رواتب الموظفين، وكذلك قطاعها العسكري والأمني من السعودية، وفي حين تشير المعلومات المتداولة إلى قبول السعودية دفع الرواتب عاما، كإجراء مرحلي، وهذه المعالجة لا تعني حلّ أزمة رواتب القطاع الحكومي، وانما ترحيلها، في ضوء عدم معالجة الوضع الاقتصادي والإنساني بشكل عام، بحيث ستتجدّد مشكلةً بين الأطراف اليمنية.
 
فضلاَ عن ذلك، يعيق اقتصاد الحرب، في المقام الأول، فتح الطرقات البرّية الرئيسية في مدينة تعز المحاصرة كمنفذ الحوبان، حيث تنخرط قوى متعدّدة من الجماعة وشبكاتها إلى أطراف السلطة في مدينة تعز وشبكاتها في إدارة اقتصاد المعابر، من خلال الرسوم والجبايات والضرائب التي تفرضها على حركة التجارة والتنقل، فضلا عن أن فتح الطرقات البرّية وتحديدا في مدن التماس ومناطقه يقتضي تغيير المعادلة العسكرية، وهو ما سترفضه الأطراف مجتمعة التي تعوّل على الحفاظ على امتيازاتها الاقتصادية.
 
في المقابل، يمثل رفع القيود عن ميناء الحديدة مطلب الجماعة، حيث تعوّل على الإشراف السيادي للميناء لتنمية مداخيلها، وذلك يتأتى بمطالبتها برفع القيود الأممية كاملة على الميناء، بيد أن ذلك يتعارض مع دور البعثة الأممية، ومن ثم يقتضي تغيير الوضع الدولي للميناء، وهو ما ستحاول الجماعة انتزاعه. بموازاة موافقة السعودية على رفع القيود جزئياً عن ميناء الحديدة، فإنها ستدفع لتحسين المعادلة الاقتصادية لسلطة وكلائها، وذلك بمنحها، أخيرا، المجلس الرئاسي حقّ الإشراف على ميناء عدن، وتفتيش السفن التجارية، لأول مرة منذ بدء الحرب، وذلك بنقل سلطة التفتيش من ميناء جدّة إلى ميناء عدن، كإجراء يحقق نوعا من التوازن بين فرقاء الحرب في معادلة النفوذ والسيطرة على الموانئ اليمنية.

(العربي الجديد)

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر