الحالمون بوراثة غزة


عبد الحليم قنديل

على طريقة الهروب للأمام، يقفز العدو الأمريكي «الإسرائيلي» إلى نتائج عبثية متعجلة، ويفترض أن هزيمة «حماس» باتت تحصيل حاصل، مع أن كل المؤشرات توحي بالعكس، ومع أن معركة المقاومة الفلسطينية الدفاعية، تجري بعبقرية تخطيط وأداء هجوم السابع من أكتوبر المزلزل نفسه، ويكاد الجيش «الإسرائيلي» يدفن تحت حطام مدينة «غزة» وما حولها.
 
ورغم عدم التكافؤ المادي بأي حساب بين الطرفين، وميل الموازين الظاهرة، إلى ترجيح كفة العدو في غزوه البري المتعثر، فإن العمليات الجارية حتى اليوم لصالح المقاومة، والأسباب ظاهرة، فثمة فارق هائل لصالح المقاومة في عقيدة القتال، وفي براعة الاستخدام الذكي الجسور للأسلحة المتوافرة بين أيديها.
 
 
المقاومة الفلسطينية تحارب فوق أرضها، تماما كما كان عليه الحال في السابع من أكتوبر الماضي، بينما يتواصل غباء التخطيط الأمريكي والتنفيذ «الإسرائيلي»، وتثبت خيبة قوات النخبة المعادية، ويفاجأون كل لحظة برجال المقاومة الذين يخرجون من الأنفاق كالأشباح في ظلال الملائكة، ويقنصون بأسلحتهم السحرية أعدادا كبيرة من الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود، ويحطمون مركبات تتكلف عشرات ومئات الملايين من الدولارات، دونما حاجة لأسلحة مماثلة في التكلفة والنوع، بل تكفي المقاومين أسلحتهم ذاتية الصنع، وبتكلفة زهيدة لا تتجاوز عشرات أو مئات الدولارات.
 
ومن المسافة «صفر» القاتلة للعدو، ويوقعون خسائر بشرية ثقيلة قاسية في صفوف الغزاة، الذين لا يملكون فرصة لفوز في قتال الرجال وجها لوجه، ويلجأون بالخسة لغارات وقذائف القصف الوحشي الهمجي على المدنيين والأعيان المدنية، ويحرقون البشر والحجر، وبقصد إفناء «غزة»، التي تقدم هذا الصنف الفريد من المقاومين، وتبذل من دمها عشرات الآلاف من الأرواح والجرحى، أغلبهم من النساء والأطفال.
 
وقد بدا رعب جنرالات «إسرائيل» ومسؤوليها من بطولة غزة الشهيدة صادما لنفوسهم، ومرئيا بلا مواربات في إعلام العدو وقنواته التلفزيونية، فقد قال الجنرال جيورا أيلاند مثلا، إن غزة يستحيل إخضاعها أو التفاهم «الإسرائيلي» معها، ووصف أهل غزة بالدولة النازية، التي تسعى للقضاء على كيان «إسرائيل» وإبادة المستوطنين، والجنرال أيلاند ـ كما هو معروف ـ صاحب الخطة المفصلة لتهجير أهل غزة إلى سيناء، ورغم كونه جنرالا قديما مجربا، إلا أن رعب غزة المقاومة العنيدة لم يبرح خياله، إلى حد بدا معه في رعونة وزير الثقافة «الإسرائيلي» الشاب المتطرف عميحاي إلياهو، الذي طالب بمسح غزة عن الوجود بالقنابل الذرية.
 
ولعل ما يفضح غباوة جنرالات التخطيط الأمريكي وخدمهم «الإسرائيليين»، أنهم يستلهمون التكتيكات من تجربة تدمير الفلوجة العراقية، ويزيدون عليها تكتيكات الحرب في الموصل ضد «داعش»، ويتجاهلون الفوارق البينة بين ما كان ويكون، فلم يكن لتنظيم «داعش» أدنى شعبية بين سكان الموصل، وهم جماعة إجرامية متخصصة في قطع رقاب العرب والمسلمين، وتعمل بمعية أجهزة مخابرات عالمية وإقليمية.
 
بينما «حماس» على العكس تماما، حتى إن كانت ارتكبت أخطاء سابقة في التقدير والسلوك تجاه المصريين والفلسطينيين، ثم كفت بصرها عن ما يجرى خارج حدودها، وآل أمرها إلى ما يبدو اليوم كحركة مقاومة فلسطينية خالصة، زادت شعبيتها باطراد في أوساط الفلسطينيين جميعا، ليس بسبب انتسابها الفكري والسياسي، ولا بسبب أصولها «الإخوانية»، فحركة منصور عباس الإخوانية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، تحظى بأعظم احتقار في صفوف الفلسطينيين والعرب بعامة، وتعمل في خدمة «الموساد» والمؤسسة الصهيونية، وتتباكى على «الإسرائيليين» الذين قتلوا أو أسروا في هجوم السابع من أكتوبر، وتصف المقاومة الفلسطينية وأسراها بالإرهاب والإرهابيين.
 
 
بينما «حماس» اليوم تتصدر حركات المقاومة، تماما كما كانت «فتح» ذات يوم في الموقع نفسه، وتثبت جدارتها بحمل رسالة المقاومة أشواطا، وصحيح أن المعنى «الإسلامي» عموما، يمد المقاومة بزاد استشهادي هائل، ويجعل المقاومة لاسترداد الوطن جهادا في سبيل الله، كما هو الحال في «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وفي حركات مشابهة كثيرة في حروب التحرير الوطني في منطقتنا، كما كان الحال ـ مثلا ـ في حرب تحرير الجزائر.
 
وربما تكون مشكلة التفكير الإسلامي «السياسي» عموما، أنه يبدي إيجابية كبرى في حروب التحرير الوطني، التي ما أن تنتهي، ويبدأ الانتقال من الحرب إلى السياسة، حتى يتحول البندول إلى الاتجاه العكسي، وتفشل الحركات «الإسلامية» في التواؤم مع مطالب التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ربما لأن الفكرة المركزية عندها في كل الأحوال هي، الدفاع عن وحراسة «البيضة» و«الثغر» و«الموروث»، وهذه قصة أخرى، ربما تحق مناقشتها في سياق آخر.
 
 
والأهم اليوم على صعيد فلسطين بالذات، وفي حربها الطويلة من أجل التحرر الوطني، أن تكون معايير التمييز مختلفة، ليس بحساب الاتجاهات الفكرية والسياسية والتاريخية، بل بحساب روح ومعارك التحرير الوطني الفلسطيني، وبحساب زمانها الممتد لعقود تأتي، وفيها، فلا مجال للفرز والتمييز، إلا على أساس قاعدة التفرقة بين المقاوم والمساوم، وفيها تستوي الأحكام على الفرقاء باختلاف المنابع الفكرية، وفيها تصبح «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» ـ اليسارية ـ شيئا واحدا على اختلاف الأوزان، فكلهم سواسية في المعسكر المقاوم، وكلهم يقاتلون في الميدان.
 
وكلهم يرفضون ترتيبات العدو الأمريكي «الإسرائيلي» لوراثة غزة، وجلب عملاء فلسطينيين لحكم غزة بعد خلع «حماس» المفترض، وقد لا نتوقف كثيرا عند التصريحات الرسمية التطمينية، من نوع رفض مسؤولين في سلطة رام الله الذهاب لحكم «غزة» على ظهر دبابة إسرائيلية، بينما تحاول واشنطن توريط السلطة في الخطأ القاتل، ولو من وراء ستار البحث عن حل سياسي شامل، يعرف الكل أن كيان الاحتلال يرفضه، ولو كان في صيغة الحد الأدنى «حل الدولتين».
 
وقد بدت حكومة الاحتلال صريحة في مطالبها الوقحة، فهي تعرف أن إعادة احتلال غزة، حتى لو كان ممكنا، يكلف الكيان دما وخسائر بشرية فادحة، ولذلك طلب بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو المهزوم صيغة محددة، هي في صلبها تكرار للواقع العملي المفروض في «القدس» والضفة الغربية، أي استنساخ خطايا «التنسيق الأمنى»، وإقرار حق جيش الاحتلال في الدخول والخروج وقت حاجته، وحق القمع والقتل والاعتقال متى شاء، وعلى طريقة ما يجري يوميا في مدن وقرى ومخيمات الضفة.
 
حتى في «رام الله»، وقد قتلوا المئات وأسروا الآلاف في شهر مضى على اندلاع «طوفان الأقصى»، وهم ـ أي الأمريكيون و«الإسرائيليون» ـ يبحثون عن وكلاء مناسبين، إما بتوريط سلطة رام الله، أو باستنساخ صور بدائية متقادمة من «روابط القرى» أو روابط العائلات، فشلت وتهاوت من عقود في الضفة الغربية المحتلة، أو بالاستعانة بالوكلاء والتابعين من حكومات التطبيع العربي، وجلب شخصيات فلسطينية معينة، جرى ترشيحها لدور «كرزاي» الأفغاني في غزة، مع وعود مالية سخية بالطبع، يدفعها بعض العرب أو الغرب الجماعي، كما جرى الوعد به أخيرا في اجتماع «دول السبع» الكبرى في اليابان.


وقرارهم بتوفير 500 مليون دولار لإعادة تعمير «غزة»، إضافة لمساعى جلب قوات عربية وغربية إلى غزة، ومن وراء ادعاءات «أممية»، يصعب تمريرها في مجلس الأمن بسبب «الفيتو» المتوقع من الصين وروسيا، وسوف تكون تلك القوات هدفا سائغا لعمليات المقاومين الفلسطينيين في غزة بالذات، حتى بافتراض «إبادة حماس» وجناحها العسكري، كما يأمل العدو الأمريكي «الإسرائيلي» متبجحا.


فزوال حكم «حماس»، حتى لو كان ممكنا، لا يعني أبدا نهاية الحركة نفسها، فبوسعها التحول إلى العمل السري، خصوصا مع بيئة تأييد عارم بين الفلسطينيين في غزة، وهو ما يستوجب تحذير الكافة من اليوم، وبالذات تحذير الأطراف العربية التي قد تتورط بالقصد أو من دونه في الخديعة المكشوفة.
 
 
فقد آلت قضية فلسطين إلى يد الفلسطينيين وحدهم من عقود، ومن حق الفلسطينيين الشرعي تماما، أن يعاقبوا كل من يتورط في خدمة كيان الاحتلال، وكل من يسعى لتقديم دروع حماية للعدو، وربما لا يكون من حل مناسب، إلا أن يترك الأمر كله للمنظمات الفلسطينية، وتوحيد جهدها في عملية وطنية شاملة لإعادة بناء «منظمة التحرير»، لتضم إليها حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي».
 
 
وتكون هي المقاوم والمفاوض معا، وقد جرى الاتفاق مرات على المبدأ، من دون تنفيذ قبل سنوات طويلة سبقت «حرب طوفان الأقصى»، التي لن تهزم فيها حركات المقاومة أبدا، مهما كان الخذلان العربي والإسلامي المهين، والعداء الغربي الطافح ضد قضية الشعب الفلسطيني المقدسة.
 
 
*نقلاً عن القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر