تتحدد بشاعة الجريمة في القصدية الكامنة في إزهاق أرواح الأبرياء، تجريدها من القيمة ومن ثم تحويلها إلى هدفٍ مشروع للقتل، إلى جانب ما تخفيه تلك الجرائم أحيانا من تمييز عرقي أو ديني أو اجتماعي. وإذا كانت أطراف الحرب في اليمن، من الجماعات المسلحة، على اختلافها، إلى الدول المتدخلة قد ارتكبت جرائم لاإنسانية في حق اليمنيين، فإن جرائمها في حقّ المهاجرين أكثر بشاعة، فإلى جانب تجريدهم من كل وسائل الحماية، والرعاية أيضا، فإنها جعلتهم أهدافا مباشرة للقتل. ومع أن حالة الحرب في اليمن حوّلت المدن اليمنية إلى مسرح دائم للجريمة، فإن حدودها البرّية مع السعودية هي ساحة لجرائم أخرى تحدُث بعيدا عن أنظار العالم، جرائم عنصرية وتمييزية تطاول جماعات بشرية هاربة من الحرب، عزلاء، وجائعة.
 
على امتداد العقود الأخيرة، ظلت اليمن الوجهة الرئيسية للمهاجرين من دول القرن الأفريقي، وبوّابة تفضي إلى الأراضي السعودية، إذ إن استمرار النزاعات الأهلية وحالة الفقر في البلدان الأفريقية تدفع موجات متعاقبة ومستمرّة من المهاجرين لاجتياز ما عُرف بـ"طريق الشرق"، فعبر شبكات التهريب التي تمتد عبر الأراضي الصومالية والحدود الإثيوبية - الجيبوتية، ينتقل المهاجرون بحراً من الصومال إلى مدينة شبوة أو مدينة حضرموت شرقاً، أو غرباً إلى ميناء الحديدة على البحر الأحمر، هذا الواقع المأساوي أنتج مجالا نشطا اقتصادياً يتحرّك بين الحدود البحرية اليمنية - الأفريقية تديره شبكات التهريب العابرة للحدود ضمن اقتصاد التهريب والاتّجار بالبشر.
 
مقابل مأساة يومية مستمرّة يعانيها المهاجرون الأفارقة من التخفّي في قوارب صيد في ظروف غير آدمية إلى المعاملة اللاإنسانية من المهرّبين، إلى الغرق في البحر، وأمام تدفّقات المهاجرين إلى اليمن، فإن السلطات اليمنية المتعاقبة، وإن ظلت قاصرةً في استيعاب جموعهم، ودمجهم مجتمعيا واقتصاديا، وأيضا ملاحقة شبكات عصابات التهريب، فإنها ظلّت السلطة السياسية المركزية المعنية بشؤون المهاجرين، وبمساعدة الجهات الأممية، وفرت لهم الحد الأدنى لهم من الإيواء في مخيّمات اللاجئين، وشكلا ما من الحماية، والاستقرار الاقتصادي النسبي قبل الحرب، جعلت بعض المهاجرين يفضّلون قسريا او اختياريا الاندماج في المجتمع والبحث عن فرص عمل، إلا أن حالة الحرب في اليمن، فاقمت أوضاع المهاجرين، فإلى جانب تجريدهم من الحماية، ومن ثم إهدار حقوقهم كمهاجرين، فإنهم أصبحوا عُرضةً لجرائم متنوعة من أطراف الحرب وشبكاتها سواء في أثناء مرور المهاجرين في الطرقات البرّية أو انتقالهم إلى وجهتم الأخيرة نحو الحدود اليمنية - السعودية.
 
تظهر تداعيات سقوط الدولة اليمنية المركزية في مأساة المهاجرين الأفارقة، فإلى جانب انتقال هذه المسؤولية إلى جهات دولية، فإن غياب سلطة مركزية تشرف على أراضيها البرّية أو البحرية أدّى إلى عدم رصد أعداد المهاجرين وحصر تدفقاتهم ومن ثم إشرافها على إيوائهم وتوفير الإغاثة والرعاية الصحّية، كما أن تحوّل سلطات الحرب نفسها إلى سلطات أمر واقع، ضاعف مأساتهم وإخضاعهم للعزل، وتحوّلهم إلى مجاميع غفل مجرّدة من أي حقوق اجتماعية أو اقتصادية، بما في ذلك أشكال الحماية، وحرمانهم من وسائل الإيواء والإغاثة والرعاية الصحية، ومن ثم تعرّضهم لجرائم عديدة، ففي حين يصل آلاف المهاجرين يوميا إلى السواحل اليمنية، إلى مدينة عدن، وشرقا إلى حضرموت وشبوة وغربا إلى مدينة الحديدة، بحيث تختلف محطّاتهم من صنعاء الخاضعة لجماعة الحوثي أو عبر البيضاء ثم صعدة في اتجاه الحدود، فإنهم يتعرّضون لجرائم وانتهاكات عديدة، من السجن من السلطات المحلية، إلى السرقة من العصابات، كما أن عدم وجود وسائل الإعاشة تجعلهم عرضة للموت جوعا.
 
ومع أن المهاجرين يلجأون أحيانا لأعمال منخفضة الأجر من الزراعة في المناطق الريفية إلى غسل السيارات في المدن لتأمين جزء من رحلتهم نحو الحدود السعودية، فإنهم قد يفشلون في العثور على العمل بسبب حاجز اللغة، وأيضا خوف السكّان المحليين منهم، وأحيانا يتعرّضون لأذى من هؤلاء. ومن جهة ثانية، جعلتهم جرمية أطراف الحرب وعدم التزامها بالقوانين الدولية هدفا للقتل، كما أن عدم وجود جهات حقوقية محلية ترصد الجرائم التي يتعرّض لها المهاجرون صعّد من نسبتها، مقابل لامبالاة أطراف الحرب.
 
وأيضا تجاهل سلطاتهم الوطنية، فإضافة الى غارت طيران التحالف التي قتلت مئات من المهاجرين، سواء في أثناء عبورهم المياه الإقليمية في البحر الأحمر أو في الطرقات البرّية اليمنية، بما في ذلك استهداف مراكز السجون في المدن اليمنية، فضلا عن قصف المدفعية السعودية المناطق الحدودية في معاركها ضد مقاتلي الحوثي، حيث تسبّبت هذه الحوادث بقتل يمنيين ومهاجرين أفارقة، بما في ذلك استهداف طيران التحالف مركز إيواء في مدينة صعدة قبل ثلاثة أعوام ومقتل عشرات من المهاجرين، الى جانب قتل جماعة الحوثي عشرات من اللاجئين الإثيوبيين من إثنية الأورومو قبل ثلاث سنوات في صنعاء، كما أن تحوّل أطراف الحرب إلى سلطات، جعلها طرفا فاعلا في مأساة المهاجرين، سواء بانخراطها في عملية تهريبهم أو باستثمارهم اقتصاديا وسياسيا ضد خصومها.
 
حيث تنخرط جماعة الحوثي في تهريب المهاجرين إلى مدينة الحديدة، ومنها إلى الحدود اليمنية - السعودية التي تدرّ عليها أموالا طائلة إلى جانب الضغط على السعودية، بيد أن الوصول إلى الحدود بالنسبة للمهاجرين رحلة صعبة، إذ قد تنتهي مسارات رحلتهم في مخيماتٍ معزولةٍ في صحاري مدينة مأرب، بعيدا عن مخيمات النازحين اليمنيين، حيث يكونون عرضة للموت جوعا، إلى جانب حوادث احتراق المخيمات التي تسبّبت في مطلع العام بقتل عشرات من الأفارقة، أو قد ينتهون في الشتات في مجاهل مدينة صعدة بحيث يكونون عرضة للقتل، سواء بمدفعية الحدود السعودية، أو بالألغام، ومن وصل من جموع المهاجرين إلى الحدود فإنه يختبر ظروفا أقسى من مشقّة الطبيعة والجوع إلى تهديد الحياة نفسها.
 
في معادلة اللادولة، تمثل الحدود اليمنية - السعودية مثالا حيويا لانتزاع السيادة، بحيث تحوّلت حدودها الدولية مع السعودية إلى مجال حصري لهيمنة السعودية، بما يعنيه ذلك من أشكال انتهاك السيادة من العمليات العسكرية والاستحداثات، وتغيير المعادلة الحدودية لصالحها وفرض أمر واقع، إلى أشكال العسف التي يتعرّض لها العابرون على ضفتي الحدود، من اليمنيين أو المهاجرين الراغبين باللجوء إلى السعودية.
 
وقد نقل تحول السعودية إلى طرف متدخّل في الحرب، ومن ثم وصيا على وكلائها في اليمن، إلى أن تصير متحكما رئيسا في تلك الأراضي البرّية التي تمتد على مسافات شاسعة، فيما حوّلت جماعة الحوثي المناطق الحدودية في صعدة تحديدا منطلقا لعملياتها العسكرية ضد السعودية. وبالتالي، انخرط الطرفان في أعمال عسكرية قتلت مدنيين يمنيين ومهاجرين أفارقة، إلا أن السعودية التي لطالما قاربت حدودها الجنوبية مع اليمن في سياق أمني، وذلك بعمل نطاقات عزل أمنية وعسكرية للرقابة على حدودها وحملات أمنية ضد الوافدين، إلى إنشائها جدارا حدوديا عازلا قبل الحرب لمنع المتسللين، سواء من اليمنيين أو الأفارقة إلى داخل أراضيها، قد أدارت المعادلة الحدودية في سياقين، تحويل حدودها مع اليمن إلى مسرح عسكري مفتوح، ومن ثم أرض محروقة في الجانب اليمني، إلى تأمين حدودها بوسائل قمعية وباللجوء الى القوة، لمنع اللاجئين والمهاجرين من الدخول إلى أراضيها.
 
وهناك سردية واحدة بالنسبة للمهاجرين الأفارقة واليمنيين، إذ إن الحدود اليمنية - السعودية ليست خطا دوليا يرسم الحدود بين دولتين، بل هو خط يحدّد خيارات الحياة المقبلة، ما بين القتل في الحرب والموت جوعا، وما بين البحث عن فرص للنجاة في بلد النفط. لذلك ستظل موجات المهاجرين الفارّين من حروب بلدانهم تحاول الوصول الى مبتغاها، طرق تلك الحدود الشائكة، حتى وإن كان الموت قتلا بالرصاص هو النهاية غير السعيدة لرحلة شاقّة ومفجعة.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر