تعكس الجامعات بوصفها مؤسسات أكاديمية تنتج المعرفي والثقافي وساحة لتفاعلات اليومي تطور المجتمع وحيويته، وأيضا مستقبله، وكذلك دورها المحوري في إدارة عجلة التنمية الوطنية، بحيث تكون محطّا لهذه التفاعلات ومعبّرا عنها.
 
وفي اليمن، ترصد الجامعات تحوّلات هذه العلاقة التشابكية، ومع تعرّض الجامعات لأزمات عديدة حدّت من أدوارها الوظيفية، فإنها احتفظت، إلى حد كبير، بمقوّماتها، بيد أنها تواجه اليوم تحدّيات عديدة تتعدّى الأزمات الطارئة إلى تهديد وجودي قد يقوّض استمراريتها مؤسسات أكاديمية، إلى جانب إخضاعها وتفريغها من أدوارها الوظيفية مجتمعيا وثقافيا أيضا.
 
لأسباب عديدة، ظلت جامعة صنعاء مركزاً حيويا لإنتاج المعرفي وتفاعلات الثقافي والسياسي، إذ كانت، وهي التي تأسست في سبعينيات القرن المنصرم (أول جامعة حكومية) أحد تجليات الدولة الوطنية وتمظهراتها، بحيث قادت، من خلال نخبها الأكاديمية، عملية البناء والتحديث على مستوى الدولة والمجتمع، واستمرّت تاريخياً ساحة تفاعلية متجدّدة بين الثقافي والسياسي والمجتمعي، إلى جانب تشكيلها النخب المحلية، بيد أنها اليوم تعكس حالة الخراب الذي تشهده اليمن، بحيث فقدَت كل مقوماتها مؤسسة أكاديمية ودورها الوظيفي.
 
ففي حين أوجدت الحرب تحدّيات عديدة أثرت على قطاع التعليم الجامعي، من توجيه سلطات الحرب موازنات الدولة لصالحها، إلى التدخّل في سياسات الجامعات واستثمار المنح الدراسية لأبناء مسؤوليها، بما في ذلك عسكرة الجامعات والسيطرة على فضائها المكاني، وكذلك استهدافها من الجماعات الدينية، فإن جامعة صنعاء تواجه تركيبةً معقّدة من العوامل التي أفضت إلى تقويضها، حيث تضافرت تبعات الحرب الاقتصادية والاجتماعية التي أثرت على هيكلها الإداري والأكاديمي.
 
يضاف الى ذلك خضوعها لسياسات قهرية من سلطة جماعة الحوثي، بحيث دمّرت بناها المؤسّسية التقليدية وأنشأت هياكل موازية، بما في ذلك توجيه سياساتها التعليمية، ومن ثم أدّى ذلك إلى تردّي مستواها التعليمي وأفقدها ريادتها ونخبويتها على المستوى الوطني، إلى جانب إخضاعها لتوجه الجماعة الديني من الفصل بين الجنسين إلى تقييد الحرية الفكرية والأكاديمية، ومن ثم جرفت كل مظاهر التنوير التي كانت تمثلها جامعة صنعاء فيما مضى.
 
تترادف التحدّيات التي أنتجتها الحرب، بما في ذلك تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية في تدمير جامعة صنعاء على عدة مستويات، فمن جهة، أفضت الحرب إلى تجريف الطبقة الوسطى جرّاء إرهاقها اقتصاديا، بحيث لم تعد الجامعات خيارا مواتيا بالنسبة لها، إلى جانب نزوح الطبقات العليا من المجتمع المحلي إلى خارج اليمن، الأمر الذي خفّض من مستويات التحاق الطلاب في الجامعات، ومن ثم حدّ من قنوات تفاعلاتها مع المجتمع، كما شكّلت الحرب، بحد ذاتها، عاملا رئيسا في تغيير علاقة المجتمع بالمؤسّسات التعليمية العليا بشكل عام نتيجة عدم وجود فرص عمل تستوعب خريجي الجامعات، مقابل ما توفّره جبهات الحرب من مصادر للتكسّب اليومي.
 
يضاف إلى ذلك العامل الاقتصادي في ظل الحرب الذي أثر على أنماط حياة المواطنين، وحرمهم من إلحاق أبنائهم بالتعليم الجامعي، فاقمته سياسة الخصخصة التي تتبعها جماعة الحوثي وسلطات الحرب، بحيث لم تعد الجامعة خيارا متاحا لليمنيين، اقتصاديا أيضا، أدّى توقّف رواتب السلك الأكاديمي في المناطق الخاضعة للجماعة إلى تردّي العملية التعليمية وكذلك أوضاع الهيئة التدريسية والأكاديمية في جامعة صنعاء، ناهيك عن توجّه بعضهم إلى الجامعات الخاصة، بما في ذلك هجرة قطاع واسع من الأكاديميين إلى بلدان الشتات، بحيث فقدت جامعة صنعاء خيرة أكاديمييها، إلى جانب وفاة عشرات من أعضاء هيئة التدريس من النخبة المؤسّسة جرّاء الأمراض المزمنة وجائحة كورونا، بيد أن طبيعة السلطة الحاكمة في صنعاء، كان لها الدور الأكبر في تقويض جامعة صنعاء.
 
 
تفرض أي سلطة تبعا لهويتها وسياساتها أشكال الإعاقات والتقييد الذي تواجه المؤسّسات في المناطق الخاضعة لها. وإذا كانت جامعة صنعاء، كغيرها من المؤسسات التعليمية، خضعت للسياسة التقليدية لجماعة الحوثي في إدارة مؤسّسات الدولة الإيرادية التي تتركّز في توجيه مواردها لصالح المجهود الحربي، فإنها حوّلت المؤسّسات التعليمية، بما في ذلك جامعة صنعاء، إلى استثمار ربحي ومصدر إضافي من مصادر تمويلها، بدءا بتشجيع التعليم الجامعي الموازي، مقابل تقييد التعليم المجاني، إلى نهب مخصّصاتها المالية، وكذلك الأراضي التابعة لها.


يُضاف إلى ذلك أخضعت الجماعة جامعة صنعاء لسيطرتها الكلية إداريا وماليا ووظيفيا، وأيضا لسياستها التعليمية الموجّهة، ما أفقدها استقلالها الإداري، وحطّ من مستواها الأكاديمي، وحوّلها، وهذا الأسوأ، إلى منصة إضافية للجماعة، لفرض هويتها الدينية على المجتمع، إذ تنوّعت هيمنة الجماعة على جامعة صنعاء من توجيه العملية التعليمية بفتح بعض الأقسام وإغلاق بعضها الآخر، وتعطيل مراكز الدراسات النوعية، كمركز دراسات المرأة، إلى التدخّل في سياسات التعيين، أي التأثير على مستقبلها الأكاديمي.
 
ففي حين استبعدت الجماعة المناوئين لها في الجامعة، سواء بفصلهم وإحلال الموالين لها بدلا عنهم، أو باعتقال بعض الأكاديميين، إلى جانب ترهيب الآخرين، فإنها نقلت صلاحيات التعيين في الجامعة من هيئاتها إلى نطاق سلطتها، بحيث عيّنت رئاستها وعمادة الكليات ورئاسة الأقسام، ومن ثم فرضت الموالين لها في الهيئات التدريسية في الجامعة، إلى جانب التدخّل في قراراتها، فإنها وجّهت البحث الأكاديمي من خلال تحديد مواضيع الرسالات الجامعية بمقتضى أجنداتها الطائفية، وهو ما أدّى إلى تطييف التعليم في جامعة صنعاء، وتدنّي مستوى البحث الأكاديمي، إذ فقدت جامعة صنعاء، ولأول مرّة في تاريخها، الاعتراف بمخرجاتها البحثية.
 
يُضاف إلى ذلك، وفي سياق سياسة إخضاع جامعة صنعاء، شكلت الجماعة كيانات موالية لها، تعدّدت من الهيئة الأكاديمية إلى الإدارية والطلابية، ففي مقابل إفراغ الكيانات المؤسّسية والنقابية الرسمية التي ظلت تعبر عن مصالح كوادرها وحقوقها المطلبية واختراقها من العناصر الموالية لها، فإنها حولت هذه الأطر المستنسخة إلى أذرع لها، مارست الرقابة السياسية والفكرية على توجّهات الأكاديميين والطلاب إلى جانب تعدّيها على الحريات الفكرية والشخصية، بما في ذلك فرض الهوية الدينية للجماعة.
 
 
التقويض الوظيفي والأكاديمي لجامعة صنعاء، مقابل مصادرة قرارها الإداري والأكاديمي من سلطة جماعة الحوثي، وإخضاع هيئاتها التدريسية لأشكال متنوّعة من الانتهاك والتجويع، جعلها مؤسسة تفقد القدرة على مواجهة السياسات الهوياتية التي تفرضها الجماعة، ناهيك عن تعطيل أي دور لها ثقافيا وسياسيا ومجتمعيا، بحيث أصبحت الجامعة منصّة لتسويق سياسات رجعية، تنتهك الحد الأدنى من المواطنية لليمنيين.
 
إذ إن الفصل بين الجنسين وحرمان المرأة من حقوقها وتجريم مشاركتها في المجال العام، وإنْ ظل هدفا للجماعات الدينية في اليمن، فإن جماعة الحوثي تذهب بعيدا في تكريس هذا الفصل والتجريم عبر دفع المجتمع لقبوله والشرعنة له، إذ تأخذ معركة استهداف المرأة أهميتها، لا من توقيتها فقط، بل من انطلاقها من جامعة صنعاء التي طالما كانت رافعةً لمطالب التحديث على المستوى الوطني، وهو ما يكشف حجم الخراب الذي باتت تعيشه الجامعة، إلى جانب تحوّل كلية الإعلام، الكلية النوعية التي قاد خرّيجوها مسيرة التحديث الاجتماعي والإعلامي في اليمن إلى منصّة تقود سياسة الفصل بين الجنسين.
 
وإن أتى هذا القرار من الهيئة الطلابية التابعة للجماعة، إلا أن خطورته تكمن في تضافر توجّه الفصل في الدراسة في كلية الإعلام، وذلك بتحديد أيام لدراسة الطلاب وأيام للطالبات مع المنحى التمييزي الذي تتّبعه الجماعة ضد المرأة، بدءا بتوجيه إعلامها المكتوب والمرئي والمسموع وخطب زعاماتها الدينية ضد النساء، وجعلهن هدفا للإخضاع والاستبعاد من المجال العام،  إلى جانب دور هذه الهيئات اللاشرعية في إدارة الحياة الجامعية وتقييدها ضدّا على سياسة الجامعة نفسها التي لم تعلن موقفها الرسمي، إذ سبق وأن منعت هذه الهيئات حفلات التخرّج في الجامعة من دون إذنها ومنعت الاختلاط بين الطلاب.
 
ومع أن معركة الديني تقييد الحريات الشخصية واستهداف المرأة اليمنية طالما ركزت حملتها التحريضية على كلية الإعلام، من كلية الإعلام في مدينة تعز، التي تعرّضت لهجوم من مسلحين دينيين إلى كلية الإعلام في جامعة عدن، بما في ذلك مركز دراسات المرأة في جامعة صنعاء في فترات سابقة، والتي ظلت هدفا لخطب زعامات الإسلام السياسي، إلا أن هناك مساحة من المقاومة لعسف الديني، سواء على مستوى المجتمع أو الأطر الجامعية، جرّاء تعدّد القوى السياسية في تلك المناطق.
 
بيد أن في صنعاء يصدر القمع من سلطة دينية هي سلطة الأمر الواقع، تعزّزه هيئات طلابية تمثل صوتها، وتصادر حق الآخر في الاختلاف، إذ إنه ومع إضراب طلاب كلية الإعلام رفضا لقرار الفصل بين الجنسين، فإن الجماعة، من خلال هيئاتها وزعاماتها السياسية، اشترطت رفض قرار الفصل توقيع والد الطالبة على طلب رغبته في اختلاط ابنته، ما يعني تجريمها مجتمعيا، ومن ثم انتهاك حقوقها كمواطنة، وفي ظل حالة الخوف والقمع التي تعيشها المناطق الخاضعة للجماعة، بما في ذلك جامعة صنعاء، قد تمضي جماعة الحوثي في سياسة تعميم الفصل بين الجنسين الى كل الأقسام والجامعات، تماشيا مع سياستها التمييزية التي أزاحت المرأة من الحياة العامة.
 
ما بين جامعة صنعاء في الماضي وجامعة صنعاء حاليا هوّة لا يمكن ردمها، هوّة ما بين الأحلام والكوابيس، البناء والخراب، الأفق والجدار، ففي حين كانت ساحات جامعة صنعاء ومقاعدها ومكتباتها ومراكز دراساتها وأنشطتها الثقافية والفكرية الفضاء المديني والأكاديمي والمعرفي الذي عكس تطلّعات أجيال من اليمنيين، وقاد أحلامهم في بناء دولة مدنية عادلة، دولة المواطنة لكل اليمنيين، حيث كانت جامعة صنعاء منبرا حيا متجدّدا ضد تقييدات الديني والمجتمعي والسياسي أيضا، بدأ بالدكتورة رؤوفة حسن إلى كل الأعلام الوطنية التحرّرية والإنسانية التي مرّت يوما من هناك، إلا أنها تحوّلت اليوم إلى ساحةٍ للخراب، ومرآة تعكس انحطاط حاضر اليمنيين ومستقبلهم.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر