يعكس المجال العام العلاقة التفاعلية بين المجتمع والسلطة وحدودها أيضاً، ويتجلى ذلك، إلى حدّ بعيد، في الخطاب الذي تنتجه النخب والمؤسسات المدنية ومدى تمثيله مطالب المجتمع. وفي اليمن، تتمظهر اختلالات العلاقة بين المجتمع وسلطات الحرب في المجال العام، وكذلك مضامين الخطاب الذي يتسيّد المشهد المحلي، بحيث عكس تشوّهات مركبة، أنتجتها سياسات سلطات الحرب في مصادرة المجال العام، وكذلك هيمنة خطاب نخبوي انتهازي، ما أدّى إلى تعطيل المجال العام من وظيفته حيزا للتفاعل الاجتماعي وإيجاد مشترك بين اليمنيين على الأقلّ في شقّها المطلبي، وتحويله إلى فضاء للسيطرة والتدجين.
 
في سياق التفاعل والتأثير بين المجال العام واشتغالات الخطاب المهيمن، يحتلّ الخطاب أهمية رئيسية في هذه المعادلة، إذ يراهن عليه، حتى في حال تقييد المجال العام، كفضاء اجتماعي لإنتاج الأفكار وبالتالي إمكانية إنتاج رأي عام يتقاطع مع المعيشي، ويعكس مطالب المواطنين، إلا أن الخطاب الذي تصدره الأحزاب اليمنية، في مضامين بياناتها، ورؤاها السياسية، بما في ذلك النخب على اختلافها، يتضادّ مع دورها الوظيفي بوصفها نخبة وقوة سياسية تنشط في مجال مجتمعي، بحيث يفترض أن تعكس مصالحه، وهو ما يكشف عن أزمتها الأخلاقية، يحضُر الخطاب الحزبي مثالا على أزمة الخطاب المتسيّد في الساحة اليمنية، فإلى جانب تغليبها السياسي الآني الذي يبرُز كلما شعرتُ بخطر تهديد مصالحها أو استثنائها من التمثيل في سلطات الحرب المختلفة، فإن تفريطها بمصالح اليمنيين يتعدّى القضايا الوطنية إلى تجاهل الأوضاع الاقتصادية القاهرة التي يعيشها اليمنيون.
 
 وهو ما يكشف تواطؤها مع سلطات الحرب، وكونها طرفا منتهكا آخر بحقّ اليمنيين، وإن قدّمت نفسها تاريخيا قوة تتبنّى الهم المطلبي لليمنيين، على مستوى الخطاب المهيمن أيضاً تحتل النخب، على اختلافها، موقعا مركزيا في استثمار المجال العام وتوجيهه إلى حد كبير، مع اختلاف دائرة التأثير تبعاً لأشكال الدعم والتمويل الذي تتلقاه، إلا أن خطابها لا يؤسّس لحالةٍ وطنيةٍ مشتركة تمثّل اليمنيين، سواء على الصعيد السياسي أو المطلبي، وإنما يشتغل على الهامشي بقضاياه الجزئية، وصراعاته البينية على التمثيل والحضور في الشبكات الإجتماعية ومفاصل السلطات، إلى جانب تكريس حالة الاصطفاف السياسي، ومن ثم تغذية الصراع. إضافة إلى أن هذا الخطاب لا يعكس مطالب المجتمع، وذلك بتجاهله الوضع الاقتصادي والإنساني، وإن تبنّاه، أحياناً، فيأتي بغرض التوظيف السياسي لا أكثر.
 
وتتقاطع خطابات الأحزاب والنخب والجماعات المحلية في تصدير السياسي والطائفي والمناطقي، كونه الموقع المريح الذي لا تترتّب عليه تبعاتٌ ملزمة، ناهيك عن أنه يضمن لها موقعا في السلطة وحضورا مجتمعياً. وإلى جانب تسيّد خطاب مسيّس ومؤدلج مناطقي يمثل تسييس المجال العام وتحويله إلى فضاء لتمثيل المصالح الفئوية أحد مجالات اشتغالات النخب والأحزاب وجماعات الحرب التي تنفرد أيضا بمصادرته واحتكاره لصالحها.
 
تشكّل السيطرة على المجال العام أولوية لسلطات الحرب لتأكيد همينتها السياسية والمجتمعية على نطاقها الجغرافي، بحيث عملت على إخضاع المجال العام لسلطتها، فإلى جانب تقييد الهامش السياسي من خلال إزاحة القوى المدنية والسياسية أو تطويقها في مناطقها، أي القوة التي يمكن أن تكون حاملا مطلبيا للمجتمع، فقد صادرت القنوات التي يتحرّك بها المجتمع، ويعكس فيها تفاعله مع المعيشي.
 
وإذا كانت آلية القهر التي اعتمدتها سلطات الحرب هي المضي بسياستها التجويعية حيال المواطنين، فإنها حرمت المجتمعات المحلية، وتحديداً الشرائح الدنيا التي هي خارج الأطر السياسية، من إيصال صوتها ناهيك عن مطالبها، إذ أخضعت سلطات الحرب وسائل الاتصال والإعلام وقنوات التعبير على اختلافها، ومن ثم صادرت الوسيط الذي يمكن أن ينقل معاناة المواطنين، وإن تباين تأثيرها مجتمعيا، فقد احتفظت منابر الجوامع، لأسباب دينية واجتماعية متجذّرة، بموقعها كقناة تفاعل رئيسية في البيئة المحلية التي تعكس، إلى حد ما، الحالة المعيشية للمواطنين، إلا أن سيطرة سلطات الحرب على الجوامع وفرض خطابها السياسي والطائفي، وأيضا سياسة القمع التي تمارسها حيال الخطباء أفقدها دورها المحوري وسيطا بين المجتمع والسلطة، بحيث تحوّلت إلى جزء من بنية السلطة وخطابها أيضا.
 
ومن جهة ثانية، عملت سلطات الحرب على شغل المجال العام واستثماره لصالحها عبر إنتاج خطابٍ متعدّد المستويات، خطاب رسمي تصدّره أجهزتها المختلفة للمجتمع، وخطاب تُنتجه نخبها بحيث تنحصر اشتغالاتها في تخويف المجتمع من معارضة السلطات، وكذلك تجميل سياساتها وتسويقها، إلى جانب تحميل خصومها مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية، مقابل امتصاص المزاج الشعبي الساخط، ومن ثم تثبيت الوضع الراهن، إلى جانب تنمية أدوات العسف والتنكيل والرقابة للسيطرة على المجتمع، فضلا عن إدارته بالأزمات الاقتصادية، ومن ثم إنهاكه والحدّ من قدرته على مقاومة عسفها، وفي حين أنتج ذلك مجتمعات محلية مقهورة، لا تملك أدوات لإيصال معاناتها، ناهيك عن قوى تمثلها، فإن تحوّل الأحزاب السياسية، وكذلك النخب الشابة، إلى جزء من سلطات الحرب، أعاق ضمن واقع الحرب بلورة خطابٍ معارض، حتى في حدوده الدنيا، وإلى جانب تجريف البنى المدنية من المنظّمات إلى الجمعيات، فإن انقسام مجلس النواب بين سلطات الحرب وتحوّله إلى سلطةٍ تشرعن سياساتها القهرية أفقد المواطنين سلطة كانت في زمن ما تعكس همومهم المعيشية.
 
وطنياً، أسهمت حالة الحرب والانقسام السياسي والجغرافي في تكريس تمايزاتٍ محلية على مستوى الأولويات المجتمعية والتحدّيات الاقتصادية والإنسانية، وكذلك الخطاب المحلي ودائرة التأثير وحدودها، إذ أن التمايز الناشئ عن سيطرة سلطات الحرب أنتج واقعا يختلف من منطقةٍ يمنية إلى أخرى، من ارتدادات سياسة السلطات على المجتمع إلى البنى المدنية الفاعلة وأشكال تفاعلها، بحيث أدّى ذلك إلى تباين المجال العام وحدوده وقنواته، وعلى المجتمع المحلي وطريقة تفاعله مع سلطات الحرب، كما أن اختلاف أدوات السلطة بما في ذلك هويتها السياسية والطائفية والمناطقية واشتغالاتها أدّى إلى تمايز في الحالة المجتمعية، ناهيك عن القيود على النشاط المجتمعي والمطلبي، كما أن اختلاف النظام الاقتصادي، بما في ذلك العملة المحلية، أنتج واقعا متمايزا من حيث التحدّيات الاقتصادية والإنسانية، ومن ثم اختلاف المطالب المعيشية للمواطنين، وانعكس ذلك على نوعية الخطاب المحلي ومضامينه.
 
يضاف إلى ذلك، وهو الأخطر، أن هذا الوضع أوجد أيضا تمايزا في دائرة التأثير المجتمعي، ومن ثم السياسي، وقبلها المطلبي، والمظلومية وشبكات المناصرة وتفاعلاتها، بحيث انحصر الخطاب الذي تنتجه النخب المحلية في أطر شبكاته الاجتماعية، وجعل التفاعل في القضايا المطلبية في حدودٍ ضيقةٍ يخضع لتحيّزات وتفضيلات القوى والنخب المهيمنة واشتغالاتها. ومن ثم، حرم هذا الوضع الكارثي اليمنيين، في النهاية، من بلورة مشترك وطني على المستوى المطلبي، وأعاقهم من إيجاد قنوات ضغط قادرة على التأثير على سلطات الحرب لانتزاع حقوقهم، إلى جانب تقليص حدود التضامن الإنساني في القضايا المطلبية، كما جعل قمع سلطات الحرب أي صوت يتبنّى مطالب المجتمع حالة هامشية، ومن ثم معزولة في بيئتها المحلية.
 
من بين فظاعاتٍ كثيرة ترتكبها سلطات الحرب في اليمن ضد المواطنين وبشكل يومي، تأخذ واقعة مقتل الناشط حمدي عبد الرزاق الخولاني، الملقب بـ"المكحّل" معاني عديدة، من جرمية سلطة جماعة الحوثي وأدواتها في التنكيل بالمواطنين إلى التمايزات المحلية في دائرة التضامن، والتأثير على مستوى النخب، إذ إن سائق الدرّاجة النارّية الذي ينتمي للوسط الشعبي أتى من العمق المجتمعي الهامشي المستبعد من أطر التمثيل سياسيا ونخبوبيا، أي خارج مركز الاهتمام والتفاعل، والتسويق أيضا، لكنه استطاع أن يكون صوتا شعبيا من خلال تبنّيه هموم المواطنين ومطالبهم في مدينة إب الخاضعة لسلطة جماعة الحوثي. ولذلك اعتقلته أكثر من مرة، إلى أن قُتل في سجن الأمن في المدينة في مارس/ آذار الماضي. ومع أن مقتله ضاعف نقمة المجتمع المحلي على السلطة القاهرة، فإنه لم يبلور، كغيره من الجرائم، حالة سخطٍ على الصعيد الوطني، أو حتى على مستوى النخب والأحزاب، بحيث كيّفت جريمة حدثت وتحدُث في بيئة محلية.
 
 
*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر