تتقاطع الجهود الدبلوماسية في تجذير بنية الحرب في اليمن وقواها وأدواتها، بحيث تعمل هذه الجهود، على اختلافها، على تعزيز أدوات القوة بالنسبة للمتصارعين، ففي مقابل تجاوزها لإيجاد حلّ جذري ينهي الصراع ويمنع تكراره في المستقبل، تركّز هذه المقاربات، ومن ثم الحلول الالتفافية والاختزالية على خيار تطبيع الأوضاع الاقتصادية للفرقاء، مدخلا لدفع المسار السياسي أكثر من إنهاء حالة الحرب نفسها. ومع أن هذا الخيار لا يحسّن شروط الحياة بالنسبة لليمنيين، وإنما يصبّ في صالح الفرقاء، فإن نتائج هذا السياسات، وإن خفضت مستوى الصراع في الوقت الحالي، إلا أنها تُخضعه لمنطق المساواة، كما لا تشكّل ضمانة للمضي في تسوية النزاع.
 
تنتظم الجهود الدبلوماسية فيما يخصّ الأزمة اليمنية في مسارين رئيسين، ومع تداخل قنواتهما واختلاف آلياتهما في تسوية النزاع، ومن ثم طرق الحل، إلا أنهما عكستا بنية القوى التي تمثلانها وأهدافها، ففي حين تشكّل الأمم المتحدة، من خلال مبعوثيها، الجهة الدولية المعنية بحل النزاع بوصفها قوة محايدة، فإن بنيتها البيروقراطية، وحرصها على استثمار الأزمات لتشغيل أجهزتها، والأهم أنها أداة للقوى الدولية الكبرى، عوامل أثرت على مقاربتها للحرب في اليمن، فإضافة إلى تجاهلها جذر الصراع، فإنها عمدت إلى تجزئة الحل وإخضاعه للطرف المساوم، والذي يمتلك أدوات ضغط على خصومه، والأخطر شرعنتها سلطة توافقيات المتدخلين على أنقاض السلطة الشرعية، فإذا كان ضعف الشرعية، وكذلك استراتيجية المتدخلين، قد أفضيا إلى اختلال موازين القوى لصالح جماعة الحوثي، وهو ما جعل الأمم المتحدة تشرعن المجلس الرئاسي، بهدف تحقيق توازن عسكري وسياسي يؤدّيان إلى تسوية بين الفرقاء، فإن التوجّهات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، تجاوزت سلطة المجلس الرئاسي، مقابل بلورة سياستها على استيعاب شروط جماعة الحوثي في أي تسوية، مقابل ضمان أمن السعودية.
 
 ومع أن المبعوث الأممي الحالي لليمن، هانس غروندبرغ، قد حقق وفق شروط الأمم المتحدة بخفض التصعيد لا حله، نجاحا في الملف اليمني، وذلك بفرض هدنة إنسانية في العام الماضي، جرى تمديدها ستة أشهر، والتي حققت امتيازات المتصارعين، وفي المقام الأول، جماعة الحوثي، فإن آليته الاختلالية أخضعت معادلة إنهاء الحرب في اليمن إلى منطق المساومات، بحيث فشل في إقناع الجماعة بتجديد الهدنة، لفرضها اشتراطات الشراكة في الثروات الاستراتيجية وفتح الموانئ ودفع رواتب موظفي الدولة في مناطقها، مقابل انخراطها في المفاوضات.
 
وإلى جانب الجهود الأممية التي تعضدها أيضا الدبلوماسيتان، الأميركية والبريطانية، تعدّ عُمان، من خلال اضطلاعها بمهمة الوساطة بين جماعة الحوثي والسعودية، طرفا مركزيا في تسوية النزاع في اليمن، إذ إن عدم مشاركتها في التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن جعلها طرفا محايدا في الحرب المحلية - الإقليمية، كما أن علاقتها الوثيقة بالجماعة، وبحليفها الإقليمي إيران، أكسبها ثقة إدارة وساطة مع السعودية، فضلا عن احتفاظها بمصالح مشتركة مع السعودية متعدّدة المستويات، بيد أن عُمان أدارت الوساطة في الملف اليمني لصالح طرفين رئيسين، السعودية مقابل جماعة الحوثي، وتجاهل قوى محلية أخرى، كسلطة المجلس الرئاسي.
 
 وإذ أفضى اختلاف آلية المبعوث التي تقتضي مشاركة قوة متعدّدة في المسار السياسي عن آلية الوساطة العُمانية التي تكتفي بطرفين إلى تعقيدهما الأزمة اليمنية، مع تنافسهما على تحقيق انتصار سياسي، فإن ترجيح كفّة عُمان وسيطا فرضته تقاطعات مصالح الخصوم، إلى جانب عدم الثقة بسياسة المبعوثين بشكل عام، وهو ما انعكس في التفاهمات المعلنة أخيرا في مسقط، إلا أنها لا تمثل، في أي حال، انتصارا لليمنيين، وإنما للوسطاء، وللمتصارعين، بحيث تمثل استمرارا لإدارة الحرب بتخليق أزمات من خلال تكريس سياسة المساومات والمكاسب، إلى جانب تصعيد صراعاتٍ بين قوى متنافسة باتت خارج المعادلة في الوقت الحالي، إلى جانب أن هذه الوساطات تقضي على فرص إعادة الحل اليمني للسياق الوطني.
 
ارتبط تفضيل السعودية عُمان وسيطا لإنهاء الحرب في اليمن مع تحوّل جذري في مقاربتها الأزمة اليمنية التي تمثل طرفا رئيسا فيها، وذلك بانتقالها إلى المسار السياسي، بعد فشلها في حسم الحرب عسكريا ضد جماعة الحوثي، وكيل إيران، بحيث باتت السعودية تعوّل على الوساطة العُمانية لدفع الجماعة إلى مشاورات يمنية تسوّي الصراع، كما أن البوابة العُمانية تحقّق لها مستويين من التهدئة، تهدئة مع إيران، خصمها الإقليمي وحليف الجماعة، بحيث تمنحها مسقط قناة إضافية لتطبيع العلاقات مع طهران، إلى جانب القنوات المباشرة السعودية – الإيرانية، ومن ثم خفض التصعيد المتبادل في المنطقة، واستمرار التهدئة على حدودها مع اليمن، وذلك بإقناع إيران وكيلها بالالتزام بذلك، كما أن تشارك السعودية وعُمان الحدود مع اليمن، يمنحهما هدفا مشتركا بوقف الحرب، وعدم انتقال الحرب إلى عمقهما، مقابل مصالح مشتركة في استثمار الحرب في اليمن وتنمية مكاسبهما، كما أن وجود السعودية في مدينة المهرة اليمنية، على حدود السلطة، يمنحها ورقةً للضغط على مسقط في حال لم تستوعب المطالب السعودية في التفاهمات مع جماعة الحوثي. ومن ثم، تمثل الوساطة العُمانية خيارا مناسبا للسعودية، على عكس الآلية الأممية التي تخضع لتعقيدات في إدارة تسوية النزاع.
 
ومن جهة أخرى، السعودية وإن حاولت كسب الأمم المتحدة، باحتوائها في إدارة الملف اليمني، من خلال مقايضتها تجاهل قصفها المدنيين اليمنيين، مقابل مضاعفة تبرّعاتها لبرامجها الإغاثية والإنمائية، فإنها لا تعول عليها في إيجاد حل للنزاع في اليمن، مع كونها الوجهة الرئيسية للمبعوث واطلاعها على مسارات العملية السياسية، إذ إن حرص السعودية على إغلاق ملف حربها في اليمن بأقل الخسائر حتّم عليها تغيير استراتيجيتها الحالية، ضمان أمنها، مقابل ترتيب سلطة وكلائها في المجلس الرئاسي.
 
وإذا كان تخفيض صراعات وكلائها، وكذلك استيعاب بعض مطالبهم بضخّ جزءٍ من الوديعة السعودية المقدّرة بمليار دولار إلى البنك المركزي في عدن، ومن ثم ترضية وكلائها، فإن ضمان تحوّل في مسار الصراع ينهي تدخّلها العسكري، ويحقق أهدافها، جعل السعودية تعوّل على الوساطة العُمانية، حيث وافقت على فتح موانئ الحديدة الخاضعة لجماعة الحوثي أمام حركة البضائع التجارية لأول مرة منذ ثماني سنوات، وهو ما يعني تلبية جزء من مطالب الجماعة، مقابل مطالبتها بوقف هجماتها في الحدود، وإنْ لم تشمل هذه التفاهمات ترتيبات أمنية جذرية، فإنها عكست مصالح الطرفين، مقابل تجاهل السعودية مصالح وكلائها في اليمن.
 
السلطة التي لا تمتلك شرعية حقيقية على الأرض يتجاوزها حلفاؤها قبل خصومها، إذ إن خضوعها لإرادة حليفها حدّد وظيفتها سلطة تابعة، وهو ما ينطبق على سلطة المجلس الرئاسي الذي جرى استبعاده من الوساطة العُمانية. وإذا كان المجتمع الدولي، بما في ذلك حليفها السعودي، قد حدّد وظيفة المجلس سلطة تنفيذية تدير المناطق المحرّرة، وإن فشلت في ذلك، فإن التفاهمات التي تديرها عُمان بين جماعة الحوثي والسعودية جرّدتها من تمثيل المسألة اليمنية بوصفها طرفا محليا مقابل الجماعة، لصالح السعودية، بحيث خضعت لترتيباتها السياسية مع الجماعة. وإذا كانت التفاهمات قد جعلت السعودية تفتح موانئ الحديدة أمام حركة البضائع التجارية، فإنها أثبتت أن السعودية من يمتلك السيادة على المنافذ الجوية والبحرية والبرّية اليمنية، بحيث تخضع لإرادتها، إلى جانب تداعياتها الاقتصادية على سلطة المجلس الرئاسي والحكومة التابعة له، إذ إن رفعها الدولار الجمركي أدّى إلى تقليص حركة التجارة من الموانئ الخاضعة لها، وذلك نتيجة تحويل مسار التجارة الخارجية البحرية إلى موانئ الحديدة، وهو ما أدّى إلى خفض مداخيل سلطة المجلس الرئاسي، مقابل مضاعفة موارد الجماعة.
 
وفتح السعودية حركة البضائع التجارية في موانئ الحديدة، بعد تفاهمات مسقط، يعني تنشيط الموانئ الخاضعة للجماعة، ما ألحق خسائر اقتصادية بسلطة المجلس. ومع أنها حاولت تنشيط حركة الموانئ في مناطقها بعقد صفقاتٍ مع الدول المتدخّلة، فإن ذلك يفرض عليها تقديم مزيد من التنازلات، إضافة إلى التداعيات الاقتصادية جرّاء تفاهمات عُمان، فإنها أجّجت الخلافات بين قوى سلطة المجلس الرئاسي المتنافسة، فعلى إثر تصريح رئيس المجلس الرئاسي، رشاد العليمي، عن تأجيل حل القضية الجنوبية بعد تسوية النزاع، شنّ المجلس الانتقالي الجنوبي، المُطالب بالانفصال والمنضوي في المجلس الرئاسي، حملة على الرئيس، إلى جانب إعادة قوات تابعة له الانتشار في عدن، ومنع الموظفين من دخول المرافق الحكومية، إلى جانب أن قرب أي مفاوضاتٍ تدفع بتصعيد الصراع بين قوى المجلس الرئاسي من الخلاف على التمثيل، حيث يضغط المجلس الانتقالي بأن يشكّل وفد مستقل، إلى الخلاف على الأطر ومرجعيات الحل السياسي، ما يجعله عرضة أكثر للتصدّع مع أي تحولات سياسية حاسمة.
 
من الآلية الأممية إلى الوساطة العُمانية، احتفظت جماعة الحوثي بمركزها طرفا رئيسا في الحرب، ومن ثم في أي تسوية للنزاع، فالطرف الذي يمتلك أوراق ضغط على وكلاء خصومه يفرض شروطه، كما أن علاقتها بحليفها الإيراني منحتها ورقة ضغط على السعودية، وأيضا مسافة للمناورة وتحقيق مكاسب، إضافة إلى أن انضواء قوى مليشياوية في سلطة المجلس الرئاسي ساوى بين القوى المليشياوية، وذلك بتكريس شرعية القوة والغلبة على أي إطار دستوري، ما منح الجماعة مكسبا جديدا في تعزيز نفسها قوة مفاوضة. ومع أن إدارتها علاقتها بالوسيط الأممي خضعت لشد وجذب، وإن فرضت الجماعة مطالبها، فقد ظلت عُمان البوابة المثالية بالنسبة لها، ليس فقط لإجراء تفاوضات غير مباشرة مع السعودية، بل لنقل صوتها إلى المجتمع الدولي. ولذلك، حققت مشاورات مسقط مكاسب متعدّدة للجماعة، فإضافة إلى فرض نفسها طرفا رئيسيا في التفاوض مع السعودية، وهو ما حرصت عليه منذ بداية الحرب، مقابل استبعاد سلطة المجلس الرئاسي، فإن تفاوضها مع السعودية يعني الاعتراف بها سلطة حاكمة في صنعاء والمناطق الخاضعة لها، إضافة إلى أن دخولها في تفاوض مع السعودية يعني تكريس نفسها سلطةً تمثل اليمنيين، بالنسبة لها، واستثمار ذلك شعبيا، كما أن فتح موانئ الحديدة أمام حركة البضائع التجارية بحسب اشتراطاتها يضاعف مردوداتها الاقتصادية، وينوّع مصادر تمويلها، مع حرصها أيضا على تنشيط جبهة مأرب للضغط على خصومها، وإدارة مستوىً من الحرب الاقتصادية ضد المجلس الرئاسي، من منح التجار تسهيلات في موانئ الحديدة، والتضييق على الحركة التجارية في مناطق التماسّ مع الرئاسي، وهو ما يعني تمكينها من إدارة المناطق الخاضعة لها إلى جانب تعزيز قدرتها العسكرية.
 
وإذا كانت السعودية تحرص على أن تكون أي تفاهمات سرّية، فإن الجماعة التي سبق وأن وقعت اتفاقية ظهران الجنوب مع السعودية، وبعد عام من الحرب، وأنكرتها خشية من حليفها في السلطة حينها الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، فإن كونها حاليا طرفا وحيدا في السلطة جعلها ترى في عقد تفاهم مع السعودية ندّية ونصرا سياسيا لها، وإن كان في النهاية بين طرفي حربٍ شاركا ضمن قوى أخرى في قتل اليمنيين، قوة محلية متغلّبة ودولة محتلة.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر