على هامش هدنةٍ غير معلنةٍ في اليمن، تتبلور معركة السيطرة على معادلة الطاقة أو التأثير فيها على الأقل، إذ يأتي استهداف جماعة الحوثي موانئ تصدير النفط تحولا خطيرا في مسار الحرب، بحيث قد يقوّض الجهود الأممية لتمديد الهدنة، كما أن استهداف إمدادات الطاقة قد ينقل الصراع البيني إلى مستوى أعلى، بحيث قد يطوّر كل طرف استراتيجيته الخاصة، سواء بإعاقة إمدادات النفط والغاز أو بفرض وسائل عقابية متبادلة، سيدفع اليمنيون كلفتها، إلى جانب تأثير الصراع المحلي على أسعار النفط في الأسواق العالمية.
 
إذ إن استهداف إمدادات النفط الخام قد يشكّل ضغطاً إضافياً على أسعاره، مع استمرار حرب الطاقة بين القوى الدولية، كما أن تعارض مصالحها قد يطلق العنان لقوى محليةٍ مقامرة لتصعيد معركتها وفرض شروطها، فضلاً عن تنازع القوى المحلية، بما في ذلك المنضوية في مظلة سياسية واحدة، والذي قد يدفع إلى تغذية الصراع.
 
عسكرياً، ظلت السيطرة على مصادر الطاقة هدفاً استراتيجياً لجماعة الحوثي، وذلك لضمان استمراريتها سلطة أمر واقع، إذ أدارت حروبها طوال سنوات الحرب في اتجاه مناطق الثروات في شمال اليمن وجنوبه، ومع فشل مقاتليها في السيطرة على مدينة مأرب، الغنيّة بالنفط، وكذلك حرمانها من غاز شبوة بعد تحريرها في مطلع العام الحالي (2022)، فقدت الجماعة ورقتها العسكرية التي تعوّل عليها للسيطرة على مناطق الثروات، إلا أنها باتت تدرك ضرورة تحقيق هذا الهدف بأي وسيلة، خصوصا مع صعوبة اكتفائها بمصادر تمويلٍ بديلة.
 
وإذا كانت ستة أشهر من الهدنة الإنسانية قد ضمنت للجماعة تدفّقاً للوقود عبر موانئ الحديدة، وإدارة سوق المشتقّات في المناطق الخاضعة لها، فإنها سعت، ومنذ رفضها تمديد الهدنة، إلى ربط أي سياق تفاوضي مستقبلي لتمديدها بشراكتها في الثروات النفطية والغازية، تحت ذريعة تخصيص العائدات لدفع مرتبات موظفي الدولة. ومع تعثر الجهود الأممية في تنفيذ مطالب جماعة الحوثي، وجهت الأخيرة معركتها باتجاه قطاع الطاقة، فقد هدّدت باستهداف المنشآت النفطية وموانئ التصدير في حملة تحشيد إعلامية ومجتمعية في المناطق الخاضعة لها، بهدف الحصول على مؤازرة شعبية، حيث سوّقت مشروعية مطالبها باسترداد الثروات السيادية التي ينهبها خصومها وحلفاؤهم.
 
وفي المقابل، ربطت معركتها المحلية بالمعادلة الدولية والإقليمية لصراع الطاقة، فإلى جانب تموضعها مع حليفها الإيراني، والذي يعني دعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا، والاستفادة من تداعيات الصراع اقتصاديا، فإن تصدّع التحالف الأميركي - السعودي بعد خفض منظمة أوبك +، بزعامة السعودية، إنتاج النفط، والذي اعتبرته أميركا انحيازاً سعودياً لروسيا، جعل الجماعة تبني استراتيجيتها على التأثير في سوق النفط العالمية، وذلك من خلال إعاقة الإمدادات المحلية، وبذلك تَحقّق هدفان: الضغط على المجتمع الدولي لتنفيذ اشتراطاتها في تقاسم الثروات اليمنية، الإضرار بمصادر تمويل خصومها المحليين وضرب الاقتصاد في مناطق خارج سلطتها.
 
كيّفت جماعة الحوثي أدواتها العسكرية في الوقت الحالي مع هدنة غير معلنة، وذلك بالاعتماد على الطيران المسيّر بدرجة رئيسية، فمع استمرار حدوث مناوشاتٍ في جبهات القتال، خصوصا في مدينتي الحديدة وتعز، فإن الطيران المسيّر كان السلاح الاستراتيجي للجماعة في رصد مواقع خصومها، إلا أن الأهم استخدامه في توجيه ضرباتٍ في مناطق أكثر أهمية بالنسبة لها، خصوصا في مناطق الثروات، فإلى جانب أنه يعفيها من ضخّ مقاتلين في تلك المناطق، وخوض حرب مفتوحة مع قوات متعدّدة، فإنه يمنحها خيارات تهديد أطراف محلية ودولية، ومن ثم تحقيق أهدافها ومن دون خسائر بشرية.
 
ويأتي استهدافها ميناء "الضبة" النفطي في سياق معركتها للسيطرة على معادلة الطاقة في اليمن، حيث استهدفت الميناء في أثناء رسوّ الناقلة اليونانية "نسيوس كيا" التي كانت تنقل شحنةً من النفط الخام اليمني إلى الأسواق العالمية، إلى جانب الهجمات التي طاولت ميناء النشيمة في شبوة، إذ تهدف الجماعة إلى تقييد تصدير النفط اليمني الخام إلى الأسواق العالمية أو تعطيله، وكذلك إدارة حركة الشحن، وذلك بإخضاعها لسلطتها، من خلال توجيهها تحذيراتٍ للناقلات الأجنبية.
 
وبالتالي، تفرض نفسها طرفا يتحكّم بإمدادات النفط، وبعملية تصديره وطرفا في معادلة تأمينه، بحيث قد تضطر الشركات النفطية الأجنبية، مع استمرار تهديدات الجماعة إلى عقد تفاهمات معها لضمان سلامة شحنتها، وبذلك تسيطر الجماعة سياسيا وإن بوسائل عسكرية، على حركة تصدير النفط والغاز اليمنيين، إضافة إلى إدراكها أن المجتمع الدولي لا يمتلك أوراق ضغط فاعلة تقيدها، ولذلك تمضي بفرض شروطها بوسائل القوة.
 
مع تنديد مجلس الأمن باستهدافها ميناء الضبة، فإن عدم ترجمة الإدانة إلى إجراءاتٍ عقابيةٍ قد يجعل الجماعة تصعّد هجماتها، في حال لم يخضع خصومها لاشتراطاتها في تمديد الهدنة، بحيث قد تطوّر أهدافها العسكرية، بما يؤدّي إلى إعاقة كاملة لتصدير النفط اليمني.
 
وفيما تعوّل الجماعة على هجماتها التي قد تنحصر في السياق المحلي للضغط على المجتمع الدولي لتنفيذ مطالبها، فإن تحويل استهداف النفط إلى ورقة ضغط سلاح ذو حدين، فمن جهةٍ إن ربط معركتها للسيطرة على معادلة الطاقة محلياً بالمعادلة الدولية والإقليمية وبصراعات أقطابها، يجعلها رهناً بتحوّلاتها التي قد لا تصبّ بالضرورة لصالحها.
 
فرغم تدهور العلاقات الأميركية – السعودية، إلا أن ترابط مصالحهما في قطاعات متعدّدة، من المبيعات العسكرية إلى القطاع الاقتصادي، يقلل من تبعات تصعيد الخلاف البيني إلى قطيعة، على الأقل في الوقت الحالي، كما أن سقف إنتاج النفط، موضع الخلاف، قد يتغيّر مع أي تقاربات سياسية في المستقبل. ومن جهة ثانية، إذا كانت أولويات خصوم الجماعة متناقضة، فإن استمرار تهديدها إمدادات الطاقة يجعل منها قاطع طريقٍ لا أكثر، لا يضرّ بمصالح خصومها، بقدر تنكيله باليمنيين.
 
احتفظت السلطة الشرعية بسلطتها السياسية على مصادر الطاقة في اليمن، بما في ذلك القوى القديمة والمتحالفة معها، بحيث اعتمدت على صادرات النفط الخام لتمويل مؤسّساتها التي بلغت ما يقارب مليار دولار ونصفاً في العام الماضي، وبنقل السلطة السياسية إلى المجلس الرئاسي، ورث إدارة مصادر الطاقة في اليمن، بما في ذلك تأمين إمداداتها للأسواق العالمية.
 
ومع أن سنوات الحرب قد أضرّت بالاقتصاد النفطي من إعاقة تصديره وتعطيل أغلب قطاعاته، جراء امتداد الصراع إلى مناطق الثروات، وأجندات القوى الإقليمية المتدخلة في اليمن، فإن افتقار السلطة الشرعية إلى القرار السيادي على قطاع النفط والغاز فرض قوى متعدّدةً تديره لصالحها، من السعودية إلى الإمارات إلى الشركات الأجنبية، توتال الفرنسية وغيرها، إلى جانب أمراء الحرب ومقاولي الباطن، وقوى في منظومة السلطة الشرعية، بما في ذلك فسادها، بحيث ظلّت صادرات النفط تكيَّف بحسب تحالفات مصالح هذه القوى.
 
ومع تأطير القوى المسلحة في سلطة المجلس الرئاسي، فقد صعّد ذلك صراعها البيني على مناطق الثروات، والذي أسفر عن إزاحة حزب التجمّع اليمني للإصلاح من مدينة شبوة، لصالح المجلس الانتقالي الجنوبي، وتصاعد الصراع في وادي حضرموت، بحيث أفضى ذلك إلى اختلال معادلة القوى المحلية المسيطرة على مناطق الثروات، ففي حين تمركز حزب التجمع اليمني للإصلاح في مدينة مأرب، والمجلس الانتقالي في شبوة، وحضرموت، فإنه كرّس غياب سلطة مركزية تدير مناطق الثروات، بما في ذلك الفشل في تأمينها عسكريا.
 
 وقد أغرى هذا الواقع جماعة الحوثي، إلى جانب عوامل أخرى، بالدخول طرفا في الصراع. وباستهداف الجماعة ميناء الضبة النفطي، بدا أن المجلس الرئاسي في لحظة اختبار حقيقي، سواء لأدواته أو وحدته بما في ذلك حلفاؤه في مواجهة خصمٍ عدائي، ففي حين أعلن المجلس الرئاسي تصنيف جماعة الحوثي منظمة إرهابية، محذّرا الكيانات والأفراد الذين يقدّمون دعما للجماعة، بدا أنه ردٌّ سياسي أكثر من كونه بُني على آلية واضحة، فمع أن تصنيف طرف حربٍ طرفا آخر بالإرهاب هو توصيف سياسي، بحيث من الصعب تحديد أبعاده القانونية.
 
فإن سياسة العزل التي يهدف المجلس إلى تطبيقها حيال الجماعة تحول دونها عوائق عديدة، فمن تداخل مصالح الكيانات والأفراد داخل منظومة المجلس الرئاسي بمصالح قيادات في سلطة جماعة الحوثي، بما في ذلك قوى اقتصاد الحرب العابرة لمعسكرات الحرب شمالا وجنوبا، فإن تربّص القوى المتصارعة داخل المجلس الرئاسي، يجعل بعضها حذرا في استهداف خصمٍ لا يمثل، في الوقت الحالي، خطراً على مصالحه، وقبلها أن القرار السياسي للمجلس يخضع لإرادة حليفه السعودي، وأيضا رؤية الفاعلين الدوليين للحل في اليمن.
 
ففي حين ما زالت السعودية تتمسّك بتمديد الهدنة، حيث استمرّت الرحلات التجارية إلى مطار صنعاء، فإن توصيف المجلس الرئاسي الجماعة بالإرهاب لم يوقف تدفق سفن المشتقات إلى ميناء الحديدة، وبما أن الجماعة لم تستهدف منشآت النفط السعودية، وإنما اليمنية، فإن المجلس الرئاسي يراهن على نصرٍ، وإنْ سياسي، يأتي من حلفاء لهم حسابات أخرى، فيما يدفع المجتمع الدولي الغاضب من استهداف ميناء الضبة بتطويق حرب الأغبياء.
 

*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر