في المسارات التاريخية لتحوّلات نفوذها، لطالما أدارت القبائل اليمنية تحالفاتها السياسية مع السلطات المتعاقبة من موقع قوة، بحيث استطاعت حماية نفسها أولاً من أي قوىً تعمل على منازعتها سلطتها في مناطقها، إلى جانب انتزاع مكاسب سياسية في السلطة، إذ مكّنها موقعها المركزي في المعادلة السياسية اليمنية من لعب دور رئيسي في صياغة السلطة، مقابل حصول مشايخها على امتيازات عديدة، وإن أتت كالعادة على حساب وظيفة الدولة، بحيث وفّر لها ذلك حكم مناطقها.  

 

ومع أن منطق تحالفات القبائل مع السلطات السياسية يحرّكها بمقاربات داخلية تخضع لتقديرات زعاماتها وضغط محيطها العام، بحيث ظلت تتأرجح بحسب تحوّلات موازين القوى في المشهد السياسي اليمني، فإنها أحياناً ما تدفع كلفة تحالفاتها مع قوة مناهضة لها، وقد لا تكتفي بإزاحتها إلى الهامش، بل منازعتها سلطتها الداخلية كقبيلة، وانتزاع حقوق أبنائها. 

 

وإذا كان تقويض الكيانات السياسية والاجتماعية هي وسيلة جماعة الحوثي في ضمان تثبيت سلطتها، فإن تعمّد تقليم القبيلة من أي سلطة، وإن كانت من حلفائها، تجاوز السياسي إلى انتهاك حقوق أبنائها بوصفهم مواطنين، إذ إن مصادرة جماعة الحوثي أراضي قبيلة عرة - همدان في مدينة صنعاء تمثل أحد تمظهرات سلطة البطش، واختلالات علاقتها كسلطة بالمكونات الاجتماعية، وإن عكس ضعف القبائل التي تعيش اليوم مرحلة انحدارها، بحيث لم تعد قادرةً على حماية أراضيها. 

   

كغيرها من البُنى والقوى الاجتماعية المحلية، فقدت القبائل اليمنية موقعها في السلطة، بما في ذلك إدارة المشهد السياسي، بحيث باتت اليوم خارج تركيبة سلطات الحرب الحالية. ومع تباين ثقل القبائل من منطقة يمنية إلى أخرى، بما في ذلك اختلاف العوامل التي أفضت إلى فقدانها مركزها السياسي، فإن تطويعها تمّ وفق تحوّلات قسرية ناشئة عن ترهّل البُنية القبلية في اليمن بشكل عام، وكذلك وفاة قادتها التاريخيين الذين استطاعوا إدارة تحالفاتٍ سياسيةٍ، متوازنةٍ، إلى حد ما، مع السلطات المتعاقبة، وضعف الأجيال اللاحقة التي تولت الزعامة. 

 

إلى جانب تأثر القبائل المهيمنة على المشهد السياسي، باختراقها من الأنظمة وتصعيد قبائل موالية على حسابها، إضافة إلى تسيُّسها وتحولها أحياناً إلى صفّ المعارضة لحماية مصالحها، بحيث أدّى ذلك إلى إضعافها وتفتيتها، فيما شكّلت الحرب الحالية حالة تجريف للقبائل اليمنية عموماً، وذلك بتوزّعها بين معسكرات الحرب، وتحوّل زعاماتها إلى بيادق بيد أطراف الصراع المحلية والقوى الإقليمية لحشد أبناء القبائل للمعارك، وهو ما فرض كلفة باهظة على القبائل من تحوّل مناطقها إلى ساحة مواجهات دائمة، إلى تكبّدها كلفة بشرية ضخمة بفقدان أبنائها مقاتلين في جبهات القتال، بحيث باتت مناطق القبائل طاردةً للاستقرار البشري على المدى البعيد. 

 

وفي سياق كلفة الحرب أيضاً على القبائل، وإن كان جرّاء تحالفاتها، لم تكن النتيجة لمصلحتها، فإذا كان تحالف الضرورة الذي عقدته بعض القبائل مع قوى مناهضة لها كجماعة الحوثي قد فرضته سياقاتٌ سياسيةٌ وكذلك طائفية بالنسبة إلى قبائل أخرى، وذلك لترتيب علاقاتها بسلطة الجماعة، بعد قتلها حليفها الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، فإنها لم تحقّق أي مكاسب، بل خسرت كل مكاسبها القديمة، بحيث تحوّلت في غضون سنوات الحرب إلى كيانٍ مفرغٍ من قوته وملحقة بالجماعة، فيما انحصر دورها على إسنادها سياسياً وعسكرياً، مقابل رواتب متقطّعة لبعض المشايخ الموالين للجماعة، ومن ثم أصبحت الجماعة من يدير القبائل الحليفة لها، والذي ترتّب عنه فقدانها سلطاتها، حيث فقدت ثقلها التاريخي سلطة مجتمعية تدير مناطقها الخاصة، إذ انتقلت وظيفة مشايخها المحليين إلى "المُشرفين" الذين يمثلون سلطة الجماعة في إدارة المناطق الخاضعة لها، بما في ذلك مناطق القبائل، بحيث أصبحت للجماعة وحدها اليد الطولى في إدارة السياسة الداخلية للقبائل، بما في ذلك تعيين المشايخ الموالين لها، وإزاحة المعارضين. 

  

من جهة أخرى، وعلى الرغم من اختراق جماعة الحوثي القبائل الحليفة لها، وذلك بتطييفها وارتهانها لسياستها، ظلت الجماعة على الدوام تناهض القبيلة، فإضافة إلى مقاربتها بوصفها وقوداً للحرب لا أكثر، فإنها استبعدتها من أي تمثيل سياسي في منظومة سلطتها، بما في ذلك أجهزتها المختلفة من مركز حكمها في صنعاء إلى المناطق الأخرى، بحيث ظلت القبيلة فعلياً خارج سلطة الجماعة، إضافة إلى حرمان مناطق القبائل التي أصبحت اليوم من المناطق الأشد فقراً أي خدمات، بما في ذلك حرمان أبنائها التعليم، حيث تستمر سياسة تجهيل أبناء القبائل وإفقارهم، مقابل إخضاعها، بما في ذلك انتزاع أراضيها تحت ذرائع عدة.  

 

أصبحت القبائل خارج السلطة وامتيازاتها وإحدى ضحايا تحالفاتها التي أفضت إلى سيطرة جماعة ما قبل الدولة على السلطة، إذ يمثل ذلك المآل الحالي للقبائل الحليفة لجماعة الحوثي، التي أصبحت في دائرة التنكيل، وإذا كان الإخضاع بالقوة، وبوسائل عنفية متعدّدة، يعد النهج التقليدي للجماعة، لإدارتها سلطتها، والذي يشمل إرهاب جميع المواطنين وإنهاكهم وإفقارهم، فإنه اتخذ منحىً أكثر حدّة في تعاطيها مع القبائل الحليفة، إذ ظلّ الإخضاع العسكري للقبائل من قبائل طوق صنعاء إلى المناطق الأخرى، مشهداً دورياً يعكس العلاقة الحقيقية بين سلطةٍ تعادي القبيلة ولا تأمن جانبها، ومن ثم تتعمّد إخضاعها واستنزافها، وقوة باتت تجرّد من كل شيء، إذ إن إرسال سلطة الجماعة قوات عسكرية إلى مناطق القبائل وحصارها لم يكن بسبب تمرّد هذه القبائل، ولضمان ولائها، بل لإجبارها على إمدادها بمقاتلين، ومنحها محصولات أراضيها بالقوة، إضافة إلى تثبيت سلطة المشرفين على حساب مشايخ القبائل، في حال رفض القبائل وجودهم لارتكابهم جرائم بحق الأهالي. 

 

في المقابل، وإذا كانت القبائل الحليفة للجماعة باتت خارج السلطة، فإنها لم تأمن شرّها، والذي يتجاوز عسكرتها إلى تجريد أبنائها من حقوقهم بوصفهم مواطنين، إلى جانب معاناة القبائل الحليفة من اختلالات سلطة الجماعة، ففيما شكّل أحد تمظهرات هذا الاختلال والفساد في حروب السيطرة على الأراضي بين أجنحة الجماعة وشبكة المحسوبين عليها، فإنها نقلت فسادها بوصفها سلطة أمر واقع إلى مناطق القبائل، وذلك بتمدّد سياسة الاستحواذ والمصادرة والبسط على أراضي القبائل الحليفة لها، والتي تنظر إليها الجماعة بوصفها قوة معوّقة لها، وإن حالفتها، فيما ترى أراضيها حقّاً لها، باعتبارها سلطة متسيّدة وفق أفضليتها الدينية والاجتماعية على اليمنيين. 

   

تمثل مظلومية قبيلة "عرة – همدان" مثالاً على المدى الذي وصلت إليه سلطة جماعة الحوثي في تنكيلها بحلفائها من القبائل، إذ لطالما شكّلت هذه القبيلة قوة إسناد عسكرية وسياسية للجماعة، أمدتها طوال الحرب بمقاتلين، بما في ذلك أنها ضمن السردية التاريخية لإسناد الشيعة في اليمن، إلا أنها تواجه اليوم عسفاً مضاعفاً من سلطة جماعة الحوثي، فمنذ أكثر من عام أصبحت أراضي عرة - همدان محطة للتنازع بين الجماعة، ممثلة بمؤسسة "الشهداء" التابعة لها، وأهالي القبيلة.  

 

وفيما عملت الجماعة، من خلال القوة العسكرية، على تمكين المؤسسة من الاستيلاء على أراضي قبيلة "عرة همدان" وتسويرها لفرض أمر واقع، لجأ أهالي القبيلة إلى القضاء، إذ حكمت محكمة "همدان" حكماً لصالحهم، إلا أن الجماعة أرسلت قوة عسكرية إلى مناطق القبيلة التي اعتصم فيها أبناؤها سلمياً، وأطلقت النار على المعتصمين، واعتقلت أكثر من 47 مواطناً، من بينهم مشايخ القبيلة. ورفضت السلطات ممثلة بمحافظ صنعاء إطلاق سراح بعض المشايخ، مقابل إجبارهم على إعادة بناء السور لصالح مؤسسة "الشهداء" لتأكيد امتلاكها أراضي القبيلة.  

 

ومع أن قضية أهالي عرة - همدان ليست القضية الوحيدة لبسط السلطة على أراضي مناطق القبائل، وإن عكست التوسّع جغرافياً إلى خارج صنعاء، وذلك بعد نهب أغلب أراضي العاصمة، بما في ذلك أراضي الدولة ومؤسّساتها، فإن قضية أهالي عرة - همدان كشفت، إلى حد كبير، لا اختلالات أجهزة سلطة جماعة الحوثي فقط، بل تضارب قراراتها، وإن اتفقت على انتهاك حقوق المواطنين، كذلك أكّدت هشاشة السلطة القضائية في مناطق الجماعة، وعدم احترامها أحكامها بوصفها سلطة فصل بين المتنازعين، إلى جانب انتهاك سلطة الجماعة وأدواتها لا القانون فقط، بل أيضاً الأعراف القبلية التي تجرّم التعدّي على أراضي الغير. ومن جهة أخرى، ومع استبسال أهالي عرة - همدان في التعبير عن مظلوميتهم، بما في ذلك لجوءُهم إلى الخيار المدني، فذلك لم يشفع لهم، بحيث باتت القبائل لا تستطيع حماية أراضيها من أطماع المتنفذين.  

 

في ظل سلطة متغلبة تنتهك حقوق المواطنين، أصبح الجميع في مرمى القهر والتنكيل اليومي من انتزاع حقوقهم إلى مصادرة أراضيهم، بما في ذلك تجريدهم من حقوقهم كمواطنين. وإذا كانت قبيلة عرة - همدان التي تواجه اليوم عصابةً من سلطةٍ تدّعي تمثيل الدولة إلى أدواتها في النهب، فإن الجاري بشأنها انتهاك جماعي متعدّد الأوجه، يعكس جزءاً من سردية واسعة ومفجعة لمعاني إسقاط الدولة اليمنية وحكم المليشيات. 

 

 

*نقلاً عن العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر