على اختلاف تموضعاتها السياسية وأيديولوجياتها، تحتكم قوى ما قبل الدولة لأدواتها القهرية التي راكمتها لإخضاع المجتمعات التي تحكمها، وتشكّل الحرب، بأبعادها، عوامل استدامة لها، بما في ذلك أشكال الدعم العسكري والاقتصادي الذي تتحصل عليه. ومن ثم، فإن تخفيض وتيرة الصراع قد يعمل، ضمن ظروف كثيرة، لكبح قوتها أو على الأقل كشف مواطن ضعفها. 

 

 وفي هذا السياق، تحضر سلطة جماعة الحوثي مثالاً حيوياً على قدرة قوى ما قبل الدولة على تثبيت سلطتها في مختلف مسارات الحرب، بيد أن هدنة وقف إطلاق النار وتمديدها صعّدت من أزمات سلطة جماعة الحوثي، بما في ذلك اختلالات إدارتها المجتمعات الخاضعة له، بحيث أصبحت، أكثر من أي وقت آخر، في حالة انكشاف سياسي وشعبي. 

  

تشكل الحرب بالنسبة لقوى ما قبل الدولة، كجماعة الحوثي، مجالاً حيوياً للبقاء والاستمرارية، إذ منحتها سنوات الحرب شروط القوة ومن ثم إسنادها، من فرض نفسها قوة مقاتلة ضد خصومها، بما في ذلك تنمية جناحها العسكري إلى بناء أجهزتها السياسية والأمنية كمنظومة متكاملة تخضع لها، بما في ذلك إنشاء كياناتها على حساب تقويض ما تبقى من الدولة اليمنية، ومن ثم ضمنت في سنوات الحرب إعادة إنتاج سلطة تضم أجنحتها والقوى المتحالفة معها، تقودها أجهزتها الأمنية والاستخباراتية التي ضمنت عدم قيام تمرّدات اجتماعية ضد سلطة الجماعة، خصوصاً مع سياسة إفقارها المواطنين، إضافة إلى إفراغ المجتمعات الخاضعة لها من قوة معارضة، وسحق الأحزاب السياسية التي شكّلت ركيزة رئيسية لتثبيت سلطتها، إلى جانب فشل خصومها في المناطق المحرّرة في إيجاد بديل سياسي متوازن يراعي الحد الأدنى من مصالح المواطنين. 

 

 ومع أن تحليل أسباب استقرار سلطة الجماعة تحتاج إلى دراسة العوامل الاجتماعية في الحروب الأهلية، بما في ذلك سياسة الجماعة في توسيع دائرة شبكات الحرب، بما في ذلك نتائج وسائلها القهرية حيال المجتمع، فإن حالة الهدنة مثلت معطى لمقاربة سلطة الجماعة أكثر من المجتمعات التي تحكمها، إذ إن هدنة وقف إطلاق النار، وإن حققت لجماعة الحوثي مكاسب سياسية واقتصادية، بما في ذلك منحها وقتاً لتثبيت سلطتها، فإنها أنتجت واقعاً جديداً بالنسبة للجماعة، بما في ذلك علاقتها بخصومها، إلى جانب أن انخفاض مستوى القتال في الجبهات بعد سبع سنوات من الحرب كانت له انعكاسات أخرى على سلطة الجماعة. 

  

   

سياسياً، ظلت جماعة الحوثي تدير هدنة وقف إطلاق النار وفق نهجها التصعيدي، والذي تكشّف على مدى ما يقارب من أربعة أشهر، باستمرار خروقاتها العسكرية في جبهات القتال المختلفة، إضافة إلى التحشيد العسكري، والتهديد باستئناف القتال، إلا أن الهدنة في ظروف حرب مؤقلمة، كالحرب اليمنية، لا تعني فقط التزام جماعة الحوثي بمصالح حليفها الإيراني فقط، أو على الأقل عدم الإضرار بها، بل أيضاً تفرض عليها الانخراط في مساراتٍ سياسيةٍ لتثبيت الهدنة وأيضاً مقاربة الحلول السياسية.  

 

ومع أن الخطاب السياسي لجماعة الحوثي احتفظ بطابعه العدائي حيال سلطة المجلس الرئاسي، بما في ذلك تجميد القنوات السياسية بين الطرفين، عدا مفاوضات فتح المعابر واللجنة العسكرية المشتركة، فإن حراكاً دبلوماسياً دولياً يدفع باتجاه البحث في قضية تأمين الحدود، وإنْ من المبكر البناء على اللقاءات غير المباشرة بين قيادات الجماعة ومسؤولين سعوديين، بحيث تفضي إلى تفاهمات جدّية، بيد أن مضي الجماعة في خيار التفاهمات مع السعودية قد يؤدّي إلى انقسام سياسي داخل الجماعة. 

 

خصوصاً وأن اتفاق "ظهران الجنوب" (2016) ما زال يمثل نقطة خلاف جوهري داخل أجنحة الجماعة، وإذا كانت السياقات الإقليمية والدولية، بما في ذلك تحقيق مكاسب مضاعفة للجماعة، وأيضاً تأمين مصالح حليفها الإيراني، هي من ستحدّد مسارات تفاهماتها مع خصومها السعوديين مستقبلاً بشأن قضية الحدود وقضايا أخرى غيرها، فإنها بالطبع ستنعكس على الجماعة أولاً بوصفها سلطة حرب، على أن الهدنة ليست، في أي حال، وقف إطلاق النار فقط، وتطبيع علاقات أطراف الحرب بعضها ببعض، وإنما انعكاساتها على السلطة. وفي هذه الحالة، جماعة الحوثي، وأيضاً طريقة إدارتها المجتمع. 

  

من نواحٍ عديدة، كشفت الهدنة عجز سلطة جماعة الحوثي عن التحوّل إلى سلطة أمر واقع، وكذلك تضارب أجهزتها وأجنحتها في القرارات، ومن ثم اختلالات إدارتها مسؤولياتها حيال المواطنين، وهو ما عدّ مؤشّراً لكيفية إدارتها سلطتها في أي ظرف، إذ لا يمكن إدراك أثر تعطيل الخيار العسكري الذي أنتجته الهدنة، من دون فهم أهمية البعد القتالي في تكوين جماعة دينية كجماعة الحوثي وبنيتها، فمع تعدّد أجنحتها، ظل الجناح العسكري يحتل مركزية في سلطة الجماعة، وفي مستوى القرار، كما أن المكاسب المتعدّدة التي حققها الجناح العسكري، بما في ذلك تكريس الثقل السياسي للجماعة، وهو ما يجعله يملك اليد الطولى في تقرير سياستها إلى جانب زعامتها الدينية، علاوة على إدارته سلطة عسكرية متعدّدة لها لوائحها وأنظمتها وتسلسلها القيادي، من الجيش المملشن إلى جموع المقاتلين الدائمين والمستأجرين. 

 

ومن ثم، فإن الهدنة تعني تعطيل سلطة الجناح العسكري للجماعة أو على الأقل خفض مهامها في الوقت الحالي، وهو ما يعني انخراط رموزه في المجال السياسي، وبالتالي تصعيد آخر لصراعات أجنحة الجماعة على الثروات، والتي ظلت طابعاً يحكم سلطتها في المناطق الخاضعة لها. ومن جهة ثانية، فإن تعدّد أجهزة الجماعة وعدم وجود رأس واحد يدير السلطة أفضيا إلى تعدّد سلطة القرار بين أجنحتها، على حساب مؤسسات الدولة المقوّضة، بحيث أدّيا إلى اعتساف حقوق المواطنين، وهو ما فاقمته الهدنة، وربما تمثل قضية الصحافي مجلي الصمدي، رئيس إذاعة "صوت اليمن"، مثالاً على ذلك، فبعد توقيف الإذاعة أشهراً، صدر حكم قضائي، أخيراً، بالسماح باستئناف عملها، بيد أن قوى أمنية تتبع أحد أجهزة الجماعة داهمت مقر الإذاعة، وأوقفت الإرسال، كما صادرت أجهزتها. 

 

ومن جهة ثالثة، تعني الهدنة خفض إجراءات تحشيد المجتمع عسكرياً، ومن ثم تحدّيات جديدة للجماعة، إذ إن استمرار الحرب منحها القدرة على السيطرة على المجتمع، بما في ذلك زجّه في الحرب، إلى جانب تمويله حروبها من خلال الضرائب والإتاوات، مقابل تحميل خصومها السياسيين مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي وفشلها في توفير احتياجات المواطنين، فإن خفض الصراع مع استمرار ظروف الحرب وسياسة الجماعة يصعّد من تململ المواطنين، ومن ثم رفع أصواتهم للمطالبة بحقوقهم، إلى جانب أن الهدنة قلّصت من تأثير فكرة العدو التي لطالما اعتمدت عليها الجماعة لضمان تماسك أجنحتها وإخضاع المجتمع، بحيث مكّنها من نقل الصراع إلى خارجها، ومن ثم، أعادت الهدنة تصعيد صراعات أجنحتها، إلى جانب حرمانها من الشماعة التي تعلق عليها فشلها ونهبها حقوق المواطنين. 

   

إدارة المجتمع بالأزمات سياسة سلطة جماعة الحوثي لضمان سيطرتها، يضاف إلى ذلك تحميل المواطنين كلفة مهامها بوصفها سلطة حرب وسلطة أمر واقع من تمويل حروبها إلى سداد رواتب المدرسين في المدارس الحكومية وقبلها ضمان رفاهية قياداتها. وإذا كانت هذه السياسة القهرية لا إنسانية في ظل الحرب وتصعيد القتال، فإنها تكون أكثر دناءة وجُرمية في الهدنة، ففي مقابل ضمان سلطة الجماعة من استئناف تشغيل مطار صنعاء، ودخول سفن المشتقات النفطية إلى مدينة الحديدة بأرباح ضخمة، فإنها فرضت، في مطلع يوليو/ تموز الحالي، جرعة جديدة على المشتقات النفطية بنسبة 9%، وهي الجرعة الخامسة في العام الحالي. 

 

 على الرغم من عدم وجود أزمة مشتقات نفطية في المناطق الخاضعة لها، واستمرار دخول سفن الوقود إلى ميناء الحديدة، بيد أن الجماعة كالعادة تدير الأزمات لصالح إرضاء شبكات الحرب من قياداتها التي تقوم بعملية استيراد النفط، وضمان مكاسبها مقابل تحميل المواطنين كلفة مضاعفة، ما نتج عنه ارتفاع أسعار الغاز المنزلي والبترول، بيد أن رفع أسعار الطاقة يعني أيضاً ضرب نطاقات واسعة من المجتمع، تشمل الطبقات الفقيرة والوسطى والمفقرة، بما في ذلك السواقون وصولاً إلى التجار. على أن الأكثر إجراماً لسلطة الجباية التي تمتصّ قوت المواطنين أنها لا تلتزم بالحد الأدنى من مسؤوليتها سلطةَ أمر واقع، والذي يفترض على الأقل تقنين وسائل التجويع في ظل أزمة اقتصادية عالمية، ففي حين يسيطر شبح المجاعة في المناطق الخاضعة لسلطة الجماعة أكثر من المدن اليمنية الأخرى، جرّاء سياستها، إلى جانب انعدام فرص العمل، والتضييق على عمل المصانع والشركات والمنظمات. 

 

إلى جانب عدم سداد رواتب موظفي الدولة، فإن التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية أوجدت واقعاً اقتصادياً وإنسانياً أكثر بؤساً من نقص إمدادات القمح، وتقليص منظمات الإغاثة أعمالها الإنسانية إلى النصف، والتي تعتمد على سلالها الغذائية الطبقة الأكثر فقراً، إلا أن سلطة الجماعة استمرّت في سياسة إدارة الأزمات من فرض ضرائب جديدة على التجار، والتي ساهمت في ارتفاع مضاعف لأسعار المواد الغذائية، إلى جانب فرض ضرائب على الأملاك الخاصة، والذي ضاعف من ارتفاع أسعار السكن، وهو ما يعني، في ظل اتساع دائرة الفقر في مناطق الجماعة، دفع ملايين أخرى إلى المجاعة. 

  

الهدنة لسلطةٍ استرخت في وسائل فسادها كجماعة الحوثي تعني وضع نفسها في معادلة أخرى، ومن ثم انكشافها في مواجهة مجتمع مقهور، بما في ذلك دائرة أنصارها، إذ إن حالة السخط من إفقار المواطنين وسياسة الإنهاك في أشهر الهدنة تعدّت سخط المجتمع إلى أنصار الجماعة والنطاقات الاجتماعية المتحالفة معها، من شخصياتٍ سياسيةٍ وقبلية، ليس فقط ممن فقدوا مصالحهم لصالح عصبة الجماعة، بل ممن ظلّوا سنداً لسلطتها، وبدلاً من معالجتها هذه الاختلالات، لجأت سلطة جماعة الحوثي إلى تفعيل أجهزتها الأمنية وإرهاب حلفائها، وقبلها إرهاب المجتمع، وبث محاكمات لمعتقلين سياسيين، وقبلها إعادة تكريس فكرة العدو، وذلك ببثّ خطب زعمائها الدينيين، والتحذير من خلايا نائمة تستهدف مناطقها، بما في ذلك استمرار الحرب غاية ضرورية لتوحيد صفوفها وإخضاع المجتمع، إلا أن هذه الوسائل، وإن ضمنت للجماعة إرهاب حلفائها، وأيضاً تشتيت الجموع المفقرة، فإنه لا يمكن الركون إلى سياسة التجويع لإخراس من خسر كل شيء، فحتى وإن كان انتفاض المجتمع يقتضي امتلاكه أدوات الجماعة، بما في ذلك قوتها العسكرية، فإن الهدنة أظهرت الجماعة كما هي. 

 

*نقلاً عن العربي الجديد 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر