الهدنة والتحولات السياسية


بشرى المقطري

أفزرت التطورات السياسية التي أفضت إلى تشكيل مجلس رئاسي بين حلفاء الرياض تغييرا في المعادلة السياسية في اليمن، حيث تراهن القوى الإقليمية والدولية على أن تساهم هذه المتغيرات، إلى جانب الهدنة الإنسانية، في التهيئة لتسوية سياسية شاملة تنهي الحرب. وتعوّل هذه القوى على التزام أطراف الصراع بوقف إطلاق النار، مقابل ضمان إجراءات الثقة التي نصّت عليها الهدنة، وشملت بنودا في الشقّ الإنساني لدفع أطراف الصراع إلى المضي بالخيار السياسي.


ومع أن التهيئة للسلام تقتضي أولًا قبول أطراف الصراع بهذا الخيار، كما أن ترتيب الوضع السياسي لطرفٍ من أطراف الحرب ينتج معطيات جديدة قد لا تهيئ بالضرورة للسلام، فإن مضي نحو ثلاثة أسابيع منذ سريان الهدنة أثبت هشاشتها، إذ واصل أطراف الصراع الاتهامات حيال خروقات يومية، إضافة إلى تجدّد الاشتباكات في جبهاتٍ عديدة، أسفرت عن مقتل وإصابة مدنيين وعسكريين، مقابل محاولة أطراف الصراع توظيف التطوّرات السياسية الحالية لتقوية مواقعهم التفاوضية، فضلاً عن أن الشقّ الإنساني من بنود الهدنة، وإن فرضت بهدف تحسين الأوضاع الإنسانية في اليمن، فإنها صبّت في صالح أطراف الصراع التي أنتجت هذه الأزمات، ومن ثم أنعشت اقتصادياتها، لا أوضاع اليمنيين.


من نواحٍ عديدة، تأطير القوى العسكرية التي أنتجتها الحرب في مظلة سياسية واحدة تحت مسمّى المجلس الرئاسي، ولو مؤقتاً، يعني تحوّلاً في مستوى خطابها السياسي، لا أهدافها بالطبع، كما أن انضواءها في سلطة مشتركة خفّض، في الوقت الحالي، من صراعاتها البينية، ومن ثم حرم جماعة الحوثي من نقطة تفوّقها التي ارتكزت عليها في السنوات الماضية للسيطرة على مناطق جديدة.


ومع أن المهمة المعلنة للمجلس الرئاسي، إلى جانب توحيد حلفاء السعودية والإمارات، هي التفاوض مع جماعة الحوثي بشأن تسويةٍ تنهي الحرب في اليمن، فإن ذلك يتحدّد وفق المسارات التي قد تتجه إليها الحرب، ورغبة السعودية والإمارات، والأهم تعاطي جماعة الحوثي مع هذه المتغيرات، وأوراق الضغط على الجماعة.


وفي ضوء التحولات الحالية، أحدث توحيد جبهة خصوم جماعة الحوثي تحدّيات عسكرية قد تحرمها من التمدّد إلى مناطق استراتيجية، إذ إن تباطؤ عملياتها القتالية في جبهات مأرب، وفشل مقاتليها في إحداث اختراق لأكثر من عام، حرمها من الورقة الرابحة التي كانت تعوّل عليها في المفاوضات، إلى جانب استمرار خنقها اقتصاديا بالحيلولة دون سيطرتها على مدينةٍ من أهم مناطق الثروات النفطية في شمال اليمن، وهو ما جرى نتيجة تدخل ألوية العمالقة (السلفية) في خط المعارك، بعد نقلها، في نهاية العام الماضي، من جبهة الساحل الغربي إلى جبهة شبوة وتحريرها المدينة من قبضة جماعة الحوثي، بحيث أعاقت تقدّم مقاتليها نحو مدينة مأرب، بما في ذلك تشكيل مناطق عازلة.


ومن ثم، فإن ضم قيادة السلفية المقاتلة سلطة المجلس الرئاسي يمنح قواتها زخماً عسكرياً، ومن ثم لا يصبّ في صالح الجماعة، كما أن إشراك حلفاء الإمارات في السلطة قد يعني دورا عسكريا أكبر في المرحلة المقبلة، في حال استمرّت الجماعة بالخيار العسكري، إضافة إلى تنامي حظوظ المجلس الرئاسي في حال إيفاء رعاتهم بتعهداتهم الاقتصادية، إذ إن تغيير المعادلة الاقتصادية التي ظلت عامل توازنٍ في ضعف الحاضنة الشعبية للفرقاء قد يحسّن الأوضاع المعيشية للمواطنين في المناطق المحرّرة، مقابل استمرار تدهور الحالة الاقتصادية في المناطق الخاضعة للجماعة، فضلاً عن أن استمرار رفضها الخيار السياسي قد يُضاعف عزلها دوليا في المرحلة المقبلة، بما في ذلك خضوع قياداتها لعقوبات جديدة، وإذ كانت جماعة الحوثي قد ربطت قراريها، السياسي والعسكري، بموقف حليفها الإيراني، فإن حرص إيران على توقيع الاتفاق النووي لتحرير نفطها من العقوبات الأميركية، قد يدفع إيران إلى ترجيح مصالحها في هذه المرحلة، إلى جانب ما ستسفر عنه الجولة المرتقبة من المشاورات السعودية – الإيرانية. وفي ضوء تجارب تخلّي الحلفاء عن وكلائهم، سواء في اليمن أو في الإقليم، فإن حليفها الإيراني قد يجني مكاسب على حسابها.


في المقابل، لا تبني الجماعة التي تعتمد على القوة العسكرية لفرض شروطها، كجماعة الحوثي، خياراتها السياسية على الشراكة في الغنائم، وإنما على واحدية التمثيل، ومن ثم واحدية الاستحقاق والمكاسب، كما أن قبولها الخيار السياسي، وما تفرضه تبعات التسوية السياسية، يعني تحجيمها عسكرياً، وهو ما ستقاومه الجماعة للحفاظ على مكاسبها بوصفها قوة متغلبة، تحكم جزءا كبيرا من المجتمع. لذلك حتى مع تضاعف الضغوط عليها في هذه المرحلة للمضي في الخيار السياسي، فإنها قد تظلّ تدير سياستها لانتزاع مكاسب من خصومها، مقابل تمسّكها بالخيار العسكري.


فمع أن بنود الهدنة حقّقت مطالبها، وذلك بموافقة التحالف العربي، بقيادة السعودية، على السماح بدخول 18 سفينة محملة بالنفط ومشتقاته إلى ميناء الحديدة، وكذلك التهيئة لتشغيل مطار صنعاء بواقع رحلتين أسبوعياً، ما يعني تخفيف أزمة المشتقات في مناطقها، إضافة إلى المكاسب الاقتصادية التي ستعود عليها في حال تشغيل مطار صنعاء، بما في ذلك عائدات بيع المشتقات النفطية، إلا أن التطورات السياسية في معسكر خصومها منح الجماعة أوراقا جديدة لإدارة صراعها، إذ إن تشكيل مجلس رئاسي بُني على تجاوز قرار مجلس الأمن 2216 الذي ظل يسند شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، والذي يصنفها جماعة متمرّدة على الشرعية، يقتضي تسليم سلاحها للدولة اليمنية، ممثلة بمنظومة شرعية هادي.

ومن ثم، فإن إزاحة الرئيس هادي ونائبه الفريق علي محسن الأحمر لا تمثل مكسبا سياسيا للجماعة فقط، وذلك بطي صفحة خصميها، وإنما تخلّصها من قرار دولي يلزمها بواجبات محلية ودولية، ويحدّد صيغة التسوية لإنهاء الحرب، إضافة إلى، وهذا هو الأهم، عدم استناد المجلس الرئاسي، في الوقت الحالي، لأي شرعية دستورية.


ومن جهة أخرى، المجلس الرئاسي، وإن سمّى اللواء رشاد محمد العليمي رئيسا له وقائدا للقوات المسلحة، فإن سيطرته على القرار العسكري تتطلب وقتا، إلى جانب إجراءات معقدة، وتحدّيات قد تعيق دمج التشكيلات العسكرية المقاتلة، والتي هي عمليا خارج إطار المؤسسة العسكرية الرسمية، والتي تنضوي قياداتها في المجلس الرئاسي، ومن ثم توحيد القرار العسكري لخصومها، والذي سيحول دون تنسيق عمل هذه التكوينات في الجبهات.

ومع تعذّر مضي مجلس القيادة بهذه الإجراءات، على الأقل في الوقت الحالي، تراهن الجماعة على استغلال الحالة الانتقالية التي تمرّ بها سلطة خصمها بالدفع بتعزيزاتٍ عسكرية نحو جبهة مدينة مأرب، ومحاولة إحراز تقدّم، خصوصا مع وقف غارات التحالف، كما أن إدراكها حرص حلفائها الإقليميين على التسريع باتجاه تسويةٍ يدفعها إلى التمسّك بالتصعيد العسكري، مقابل ترتيب خياراتها العسكرية والسياسية بناء على الخطوات التي سيقدم عليها المجلس الرئاسي، إلى جانب أن المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سلطة خصومها تمنحها وقتا للتحشيد.


بعيداً عن المسار العسكري، والذي سيحكمه أداء أطراف الصراع على الأرض، وأثره من ثم على المضي نحو المفاوضات، فإن القوى الدولية تعوّل، في الوقت الحالي، على إجراءات الهدنة الإنسانية مقدمة لتطبيع الأوضاع السياسية في اليمن، إلا أن توظيف أطراف الصراع كالعادة للسياق الإنساني حال دون تحسين الحد الأدنى من شروط حياة المواطنين، فإلى جانب استمرار تقييد حركة التجارة، وفرض ضرائب باهظة وإتاوات، فإن أطراف الصراع وظفت الهدنة والتحولات السياسية الحالية لجني أرباح اقتصادية، من خلال التلاعب بأسعار صرف الدولار مقابل العملة المحلية، مع استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية، إضافة إلى أن تأمين وصول إمدادات الوقود إلى المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي لم يُنه أزمة المشتقّات النفطية، فإضافة إلى تنامي السوق السوداء، رفعت الجماعة رسوم الوقود بواقع 27% بعد جرعة سابقة في الشهر نفسه.


ومع أن الإجراءات الإنسانية التي شملتها بنود الهدنة رحلت مشكلة رواتب موظفي الدولة إلى تفاهمات جانبية بين المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ وأطراف الصراع، فإن عدم إلزامهم بمعالجة عاجلة وفق آلية شفّافة تنهي معاناة أكثر من مليون موظف في المناطق الخاضعة للجماعة، أفضى إلى تسييسها وتوظيفها مقابل ملفات إنسانية أخرى.


ومن جهة ثانية، مراهنة القوى الدولية على توحيد المؤسسات الاقتصادية في اليمن، كإجراءات تدفع نحو التسوية، تغفل حقيقة استفادة أطراف الحرب من حالة انقسام المؤسّسات الاقتصادية لمضاعفة مدخولاتها، ومن ثم لتشغيل أجهزتها، تتمثل أبسط مظاهرها باعتماد جماعة الحوثي على فارق التحويلات بين المناطق المحرّرة والمناطق الخاضعة لها. وإذا كانت قضية فتح المنافذ البرية ورفع الحصار عن مدينة تعز تمثل أهمية إنسانية للتهيئة لتطبيع الأوضاع بين الفرقاء، فإن اقتصاد المعابر، وهو جزء من اقتصاد الحرب، قد يشكّل تحدّيا حقيقيا لتطبيع الحياة في مدينة تعز، إذ تعوّل عليه سلطات الحرب والقوى المنخرطة معها في تنمية مواردها. كما أن رفع الحصار عن مناطق أخرى، كمنطقة "حيس" في مدينة الحديدة التي يعاني أبناؤها من الحصار جرّاء تموضع أطراف الصراع في مناطقهم، بما في ذلك منطقة "المخا"، يقتضي زحزحة تموضعات أطراف الصراع إلى أماكن خارج المدن، وهو ما سترفضه في الوقت الحالي، فضلا عن أن رفع الحصار عن المدن وفتح الطرقات يفترضان تأمينها من الألغام التي ما زالت تقتل آلاف اليمنيين.


الخيار السياسي الذي تهيئه هدنة اجتزائية فرضت وفق منطق الضرورة، وبما يلبي أولويات المتدخلين وأطراف الصراع لا مصالح اليمنيين، لا يعوّل عليه في تثبيت وضع مستقر دائم يفضي إلى وقف الحرب وسلامٍ مستدام، إذ تسعى القوى المتصارعة إلى الاستفادة من المرحلة الحالية لتنمية مكاسبها، ومن ثم إعاقة تحوّل الهدنة إلى وقف تدريجي ينهي الحرب، كما أن إعلان هدنة من دون آلية تراقب جبهات القتال وتسمية ضباط ارتباط محايدين قد يقوّض المسار الهشّ للهدنة، إلى جانب غياب أوراق ضغط على أطراف الصراع للالتزام بالهدنة، بحيث قد تكون فقط مرحلةً فاصلةً لالتقاط الأنفاس، ثم الترتيب لاستئناف الحرب أو تغيير موازين القوى، تمهيدًا للذهاب إلى مشاورات الحل النهائي، ومن ثم، وإن كانت الهدنة بادرة أمل لليمنيين، بعد سبع سنوات عجاف من حرب مدمرة قضت على كل شيء، فإنها وفق مساراتها الآن قد لا تعني سوى تربّص المتحاربين بعضهم ببعض.


*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر