هل بالفعل اعتذر ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن التجاوب مع طلب البيت الأبيض لتنسيق مكالمة مع الرئيس الأميركي جو بايدن؟ بحسب تأكيد عضو في الكونغرس طلب ذلك الاتصال أو التنسيق لأجله، وما نشرته بقية المصادر، قد يكفي لوجود أمرٍ كهذا، على الرغم من نفي البيت الأبيض. وعادةً تجد التبريرات الدبلوماسية مساحة، فالاتصال قد يهيّأ له من موظفي البيت الأبيض والديوان الملكي السعودي، ولكن هل دقة هذا الموقف تحديداً تغيّر من المعطى الرئيس لموضوع المقال، هذا ما نستطيع أن نؤكده بكلّا.. فالفتور بين إدارة بايدن وولي العهد السعودي واضح جداً.
 
هناك ما هو متعلق بالتغير السعودي الداخلي، وهناك ما هو مرتبط بتصوّرات التحالف الخليجي الذي تمثله أبو ظبي والرياض، والذي خرج من أزمة الخليج، لكنه لا يزال يتمسّك بقدرته على إدارة مرحلة سياسية ومشروع ذاتي له يرسم به معالم التوازن الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، وفي الخليج العربي على الخصوص، ولكن هذا المشروع يمرّ بحالة فقدان توازن، فيما حقّقت الأطراف الإقليمية الأخرى في إسرائيل وإيران وتركيا مساحة جديدة لحضورها.
 
يجب التذكير هنا بأن تجاوز ما أحدثته الأزمة الخليجية لم يكن أبداً ليعبر بسهولة، بل سيظل أفقه قائماً وتأثيره العملي، وأهمه فقدان الثقة بين أعضاء المجلس الخليجي نفسه. ومع أن ولي العهد السعودي أكد في لقاء "ذا أتلانتك" معه، أخيرا، أن علاقة الرياض مع الدوحة هي الأفضل منذ زمن، إلا أن مشهد الأزمة وأحداثها الدراماتيكية تنعكس على علاقات أعضاء المجلس الخارجية، التي تتجه منفردة بين محاور كبرى، كان من الممكن أن تكون للكتلة الخليجية الموحدة فيها ممانعة، أسقطها قرار الخامس من يونيو/ حزيران 2017.
 
وفي حين تتقدّم أبوظبي إلى مساحاتٍ جديدة تجمع بين العلاقات الأمنية الاستراتيجية الخاصة مع إسرائيل، والتطبيع مع نظام الأسد ولصالحه، فهي أيضاً تسعى إلى تصحيح توتر العلاقات مع طهران، الكاسب الكبير في المنطقة، للخروج من الاشتباك السابق والعودة إلى تموضع شراكة مع الإيرانيين، وبالتالي توقف طهران سلوكيات أذرعها في المنطقة، وبالذات في اليمن.
 
أما السعودية فلديها توجه داخلي خاص لمركزية الحكم وطبيعته الجديدة، وهذا بذاته بات يمثل إشكالاً في علاقة واشنطن المتردّدة في دعمه، فانتقال القرار السياسي المركزي في علاقة السعوديين التاريخية مع واشنطن من طبيعة التعاطي مع أسرة حكم ذات ثوابت معينة، وبروتوكول سلوكٍ معروفٍ مع الغرب، حتى مع قرارات سابقة اتخذها الملوك مواقف أو ردودا على ما رأوه استفزازاً ضدهم بوصفهم نظام حكم حليف لواشنطن، فهذا مختلف تماماً عن أن القرار السياسي والسيادي في الرياض أصبح مرتبطاً بولي العهد شخصياً، وأنه لا حضور للأسرة الحاكمة في الاستراتيجية الجديدة.
 
كما أن قرب المحيط اللوجستي لحكومة بايدن من المعارضة السعودية يُمثل أيضاً قلقاً لدى مركز القرار السعودي، على الرغم من أن طبيعة السياسة الأميركية لا تتقدّم إلى مساحات مواجهة أو قطيعة مع الأنظمة الشمولية المؤيدة لها، وإنما تكتفي برسائل رمزية، فيما يترك للإعلام ولأعضاء الكونغرس مساحة أوسع، تخضع بالجملة لتأمين المصالح الأميركية القومية، التي لا تهمها شعوب المنطقة ولا حقوقهم.
 
ومع ارتداد تبعات مرحلة الرئيس الأميركي السابق، ترامب، حليفا للسعوديين، واستمرار فُرص عودته أو نموذج آخر قريب منه من الجمهوريين، فهذا يعطي مساحةً للمراهنة السعودية، بحيث إنها لن تُعطي رسائل خروج كامل أو تمرّد استراتيجي مع واشنطن، كما هو طبيعة مواقف دول الخليج العربي، فعليه، يمكن أن يُخَاطر بمساحة توتر تعود بعده العلاقات إلى توازن جديد، في عهد بايدن أو خلفه.
وتعتمد السعودية، منذ زمن، خطاب التذكير بمساحتها السياسية المختلفة، وأنها الدولة الكبرى في المنطقة عربياً وإقليمياً، كما هو استثمار وجود إقليم الحجاز والمشاعر المقدّسة ضمن حدودها وسيادتها، وهذا ليس جديدا، ولكن تدشين مصطلح "السعودية العظمى" تزامن مع التغير أخيرا في طبيعة نظام الحكم الذي ذُكر أعلاه، وتأتي إضافة يوم التأسيس في محاولة ترسيخ جديدة، لتضخيم التاريخ السياسي، وبالذات ربطه بإقليم الدولة ومركزها في نجد.
 
هذا الملف مهم جداً لفهم طبيعة الرؤية لدى ولي العهد السعودي وفريقه الخاص، فمع تحويل مركز الاستقطاب إلى الرياض وتهميش بقية الأقاليم، هناك زخمٌ إعلاميٌّ اجتماعيٌّ صاخب لإعادة تخليق الإنسان السعودي، في رؤيته إلى ذاته، وفي تقديم الدولة للعالم من خلال هذا المشهد الحاشد إعلامياً. وبالتالي، يقال للدول الكبرى إنكم تتعاملون مع إمبراطورية تاريخية ضاربة في عمق الزمن.
 
يكشف هذا البعد اليوم مسألة مهمة ودقيقة للغاية، وهي علاقة السعودية بذاتها وعلاقتها بالعالم كجغرافية سياسية، فكون الجغرافية السياسية للسعودية تتشكل من عدة أقاليم ظلت فكرة حاضرة دولياً، رغم مشاريع الاجتثاث الممنهجة لهوية الأقاليم العربية الإسلامية وإرثها الحضاري. ولذلك يحاول الحكم السعودي الجديد دمج هذه الأقاليم في فكرة الإمبراطورية المزعومة لنجد، وهذا يمثل، في الحقيقة، أزمة فكر سياسي متقدّمة، فتحويل هذه الأقاليم وشعوبها إلى مزهرياتٍ تراثية تستقطب السياح، ولا قيمة لها في الحضور الوطني الجمعي، يمثل فشلاً سياسيا، فيما كان من الممكن أن تؤسّس الدولة وحدة وطنية تعتمد الحقوق وهوية موحدة لا عنصرية بين الناس.
 
لقد ظل تقديم تاريخ نجد المعاصر مشكلة سياسية عميقة، فعلى الرغم من أن نجد مركز مهم للقبائل العربية، ومحل ذكر الشعراء وصَبوهم، إلا أنها في التاريخ السياسي كانت مرتبطةً بأحد الساحلين، ولم تكن هناك أي دولة بعد تأسيس إمارة التحالف السعودي الوهابي سنة 1744 وإنما حكم عشائري قام بغزوات لمناطق الجزيرة، وانتهت الإمارة سنة 1818، فكيف تُقدم للعالم، بل للإنسان السعودي، بأنها إمبراطورية عليه التخلي عن انتمائه وتاريخه الحضاري تحت سقفها؟ في كل الأحوال، يبقى لهذا الطرح بُعده الخاص، في صورة السعودية العظمى أمام المركز الدولي، يحتاج لربطٍ تحليلي آخر.
 
 
*نقلا عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر