هنا قضية جدلية فكرية وسياسية فارقة للغاية، في مسألة الصراع مع دولة الكيان، والموقف من المسألة الإسرائيلية. يسعى اللوبي العربي الجديد، الذي تقوده أبو ظبي إلى تضليل العرب حوله، وهو خلل قديم، تساهلت فيه الحركة الثقافية العربية، واندفع عبره بعض الخطاب الديني ليتجاوز قطعيات شرعية، من خلال الزمن القومي الحاشد الذي وسّع قاعدة المصطلحات في الصراع، ومفهوم المواجهة، وكان هذا الخطاب الديني يستدلّ بخطاب القرآن عن بني إسرائيل.
 
وإذ نوضح الأمر، نعتمد منظومة معرفية ثابتة، في الصراع العربي الفلسطيني الذي يواجه اليوم المشروع الصهيوني العربي المزدوج، والذي يُمثّل أخطر انتقاله في الصراع، ليس في ترويج العلاقة مع دولة الاحتلال، بل تبني الفكرة ذاتها، عن الجغرافيا والإنسان العربي، والتي ظلت الحركة الصهيونية تُروجها، في زمن حقّق فيه محور أبو ظبي أفضل خريطة، تتسيّد عبرها تل أبيب الإقليم والمنطقة.
 
تقوم فكرة الصراع، وتشريعها إسلاميا وعروبيا وأخلاقيا إنسانياً، على أن هناك معسكرا بشريا، بذراع مسلح، احتل أرض شعبٍ عربي، كل محيطه وأرضه ورسومه مرتبطة بعرب فلسطين، وأقام حربه على هذا الشعب، فالمواجهة، هنا، مع منظومة الفكرة الصهيونية التي احتلت الأرض، وقتلت وهجّرت من أهلها الكثير، وليست مواجهة عسكرية، ولا مدنية مع أتباع اليهودية.
 
ولو كان ذلك حقيقة لما رفضت أطراف إسلامية عدة، بما فيها في ذلك الحين موقف السلطنة العثمانية ومشيخة الإسلام التابعة لها، التعامل الأوروبي مع اليهود وتجريمهم، بل العكس، تم احتضانهم خلال عمليات التهجير الأولى التي عاشها اليهود، فلا يوجد أي تشريع حربٍ بين العرب والمسلمين مع اليهود، حيث تجاورت أمم منهم، تندلع في العالم لأنهم يهود، وإنما المواجهة في عسكرة الفكرة الدينية التي كيّفها سياسياً ملحدون يهود تبنّوا الفكر العلماني المطلق، وأسسوا الصهيونية، وهي مفارقة كبيرة.
 
أما حديث القرآن الكريم عن بني إسرائيل، وقرنه أيضاً باليهود، فكان يركّز، في كل معطياته، على أن بني إسرائيل، في دورات زمنية متعدّدة، حرّفوا الدين اليهودي، واستعلت لديهم عقيدة فرز عنصرية تبرّر امتهان بقية البشر، وتُشرّع التآمر لمصالح ذاتية لبعض اليهود لا كلهم. ولذلك قطعيات الشريعة واضحة، فهناك فرقٌ بين خطاب التقريع والتحذير من جانب والحق الإنساني المشترك من جانب آخر، والأخير ينقضه المشروع الصهيوني ذاته، ويروّجه الغطاء العربي، في إعلان تحالفه الاستراتيجي الأخطر.
 
ويكذب هذا المحور، في زعم أن مشروعه نزعةٌ إنسانية مع الأفراد اليهود، وفي الحقيقة أنه نموذج للبطش والقمع الذي سحق من يؤمن برسالة شعبه الإسلامية قبل الآخرين. يقوم المشروع على بعده الأمني السياسي، فبعدما عزّز فرقة العرب بسياساته، وحتى مجلس التعاون الخليجي الذي كان يُشار إليه كإطار إقليمي عربي صامد، على الرغم من كل سوءاته، أحدث في قلبه نزاعاً خطيراً.
 
وعبثاً يُروّج المحور مواجهته مع تركيا تبريرا، فتبنّيه المواجهة مع إيران لم يحصل عبره على أي نجاح. وكان الناتج، وبرغبة من هذا المحور، أن يُمكّن لروسيا الحليف الأساس للأسد، ثم حسمت ايران في اليمن، وعادت جغرافيا الشرق العربية أكثر هشاشةً وانهياراً أمام نفوذ ايران ذاته.
 
وصراع محور أبوظبي، وخصوصا مخلبه السعودي، مع تركيا، لم تكن له هذه الأرضية، حينما صعد حكم حزب العدالة والتنمية وتطور، والذي مد جسوراً حقيقية مع النظام الرسمي في الخليج العربي، منذ العام 2002. وكانت هناك فرصة تاريخية لكسب حليفٍ إقليمي. في ذلك الحين، لم تبرز لديه هذه الروح العثمانية، وهي روحٌ قوميةٌ تاريخية، من حقه أن يديرها مع شعبه. وكان المسؤولون الأتراك يدركون الحساسية البالغة، والإشكال مع الوطن العربي وإرث السلطنة، ويسعون إلى تعامل مصلحي، ويبقي عودة خطاب الروح الإسلامية في سياق التعاطف الشعبي الطبيعي.
 
قطع محور أبو ظبي هذه الجسور، استناداً إلى رفض تركيا الانقلاب العسكري في مصر، لكن جذور التوتر لديه مع تركيا ظلت مشتعلة بلا مبرّر، وبلا خريطة مصالح استراتيجية، ثم تحولت مواجهاته السياسية والإعلامية والأمنية إلى ألاعيب في الحديقة الخلفية للحروب الإقليمية، عبر مشروع مضاد لتركيا. نعم لدى تركيا خطاياها، وأيضا لعبتها النفعية الخاصة، لكن تحوّل أنظمة خليجية في مواجهتها إلى حرب شعواء مجنونة فجّر المستنقع.
 
وهكذا انفلتت اللعبة، وباتت المواجهات أكثر شراسة، خصوصا مع عملية الاغتيال المتوحشة التي نفذها نظام الرياض ضد الشهيد جمال خاشقجي، رحمه الله. لقد ساهمت هذه الحملات في زيادة التوتر القومي بين تركيا والعرب، من دون مبرّر. واليوم توسعت تركيا في استثمار الاتجاهات الدينية العربية، باعتبار أنها تخوض حالة حربٍ لمصالحها، فرضها محور أبو ظبي الذي خسر معركته مع إيران، ويفقد توازن تركيا، بل يحوّلها ضده.
 
المراهنة على التقوّي بتل أبيب أمام تركيا أحد الأعذار، وتركيا عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذات علاقات تجارية ودبلوماسية قديمة وواسعة مع تل أبيب، لا تزال تحتفظ بهذه العلاقات، على الرغم من المواجهات الإعلامية الشرسة وبعض السياسية. وتراهن أبوظبي والرياض على شراكة لمواجهة تركيا، وستظل هذه الشراكة تخضع لموقف تل أبيب نفسه، فيما الموقف الأوروبي لا يريد مواجهة أو قطيعة كبرى بين أنقرة وتل أبيب.
 
وكذلك تعتمد تركيا موقفها النهائي في الموقف من أي تصعيد، كما جرى في قضية الاعتداء الإسرائيلي في مايو/ أيار 2010 في مياه المتوسط على سفينة مرمرة، والقتلى الأتراك فيها، ويرتد الوهم على محور الخليج الجديد ومصر التي كان لدور تركيا بعد مهم لصالحها، في الخلاف مع إثيوبيا لو كسبته.
 
وكان ذلك وارداً في عقل نخبة الحكم والتفكير الاستراتيجي في الدولة التركية، من خلال مصالحة يُطلق عبرها المعتقلون، وتؤمّن حياة الرئيس الراحل محمد مرسي ذلك الزمن، ويُعلن عبد الفتاح السيسي مساراً سياسياً، لن يُعيد ثورة يناير، وإنما يوقف الصراع الشرس، والحرب الأمنية على الإسلاميين.
 

*نقلا عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر