يترادف في اليمن الإخضاع السياسي والاقتصادي إلى جانب كُلفة الحرب اليومية في التنكيل باليمنيين، مقابل تغوّل سلطات الحرب، فمع تنوّع أدواتها واختلاف تموضعاتها السياسية، فإنها تُخضع المواطنين لحلقاتٍ مترابطةٍ من الأزمات الاقتصادية الدورية تفضي إلى إفقارهم، ومن ثم السيطرة عليهم، إلا أن تحولات جديدة قد تضغط على سلطات الحرب، ومن ثم على المواطنين، كاستنزاف البدائل التي تعتمد عليها سلطات الحرب في تمويل أجهزتها، وكذلك تأثر البدائل بمعطياتٍ جديدة، إضافة إلى وصول الأوضاع الاقتصادية المتدهورة إلى حالة انسداد كلي، والذي قد تفاقمه التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية.
 
من زوايا عديدة، تمثّل سلطة جماعة الحوثي حالة مُركّبة لتمثلات الطغيان التي صدّرتها الحرب، إذ تعمل أدواتها المتنوعة كمنظومة متكاملة من الديني والعسكري إلى السياسي والاقتصادي، في مهمة وظيفية، بغرض إخضاع المواطنين، وإذا كانت عقيدتها الدينية قد أفضت، خلال هذه السنوات، إلى تطييف المجتمع، وإعلاء الديني/ الطائفي على حساب العقيدة الوطنية، فإن المحصلة من كل السجالات الماضوية، في ما يتعلق بأثرها على المُعاش اليومي، هو إلهاء المجتمع عن مطالبة سلطة الجماعة بواجباتها الأساسية في تحسين أوضاعه القاهرة.
 
 إلى جانب ذلك، تدير المجتمع وفق سياسة القمع والإرهاب التي تتخذ شكل حملات اعتقالات دورية تطاول معارضين ومواطنين بسطاء، وإخفاءات، إلى تضييق الخناق على وسائل التعبير المختلفة، علاوة على عسكرة المجتمع، بربطه بحروبها وتحميله كلفتها البشرية، وذلك بزجّ قطاع واسع من الشباب، وبشكل يومي، في جبهات الحرب مقاتلين أُجراء، أو كلفتها الاقتصادية من خلال فرض قائمة متنوعة من المجهود الحربي على المواطنين.
 
يضاف إلى هذه المنظومة القهرية إخضاع اقتصادي يدفع بالملايين إلى الفقر، فمع تشابه الأوضاع المعيشية المتردّية لليمنيين في جميع المدن اليمنية نتيجة سياسات سلطات الحرب، فإن هناك تمايزا اجتماعيا واقتصاديا بين مناطق السلطة الشرعية والمناطق الخاضعة لجماعة الحوثي يمكن لمسُه، أفضى إلى اختلاف سردية الفقر، حيث تؤثر طبيعة الموارد الاقتصادية وكيفية إدارتها على حياة المواطنين.
 
 
مركزية القوة والقرار شكل من أشكال الطغيان السياسي والاقتصادي الذي تمارسه سلطة جماعة الحوثي، وذلك باحتكارها وطبقة الموالين لها مصادر الثروة ووسائل الإنتاج في المناطق الخاضعة لها، مقابل حرمان المواطنين من هذه الموارد، إضافة إلى مدخولات مؤسسات الدولة الإيرادية، إلا أن اعتمادها، بالدرجة الرئيسية، على بدائل لامركزية وغير قانونية، نتجت عن انهيار النظام الاقتصادي الرسمي للدولة اليمنية، وانقسام المؤسّسات المالية والمصرفية كان أكثر كارثية على المواطنين، فإلى جانب تحفّظ سلطة جماعة الحوثي على النقد الأجنبي المودع في البنوك، وإن وفر لها ذلك استقراراً شكلياً في أسعار العملة المحلية مقارنةً بمناطق السلطة الشرعية، فإنها نظّمت عملية الاتجار بالنقد الأجنبي بشكل غير مباشر، من خلال مقاولين محليين يتبعونها، بحيث يدرّ عليها موردا مالياً ضخماً، مقابل منع المواطنين من التصرّف بأموالهم، فيما شكل اقتصاد الحرب، وبشكل خاص المضاربة بأسعار النفط ومشتقاته بما في ذلك الغاز المنزلي، إحدى أدوات سلطة الجماعة في نهب المواطنين، إضافة إلى تعطيل عمل المحطات الرسمية، ومن ثم يلجأ المواطنون إلى السوق السوداء خيارا وحيدا أمامهم.
 
وإذا كانت سياسة مضاعفة النقاط الجمركية البرّية في المناطق الخاضعة لها قد وفرت لجماعة الحوثي موردا ماليا كبيرا وبشكل دائم، فإنها تركت للتجار حرية تعويض خسائرهم على حساب المواطنين، وذلك برفع أسعار المواد الغذائية من دون ضابط. إلى جانب هذه الموارد، تعتمد جماعة الحوثي على اقتصاد العُنف المتمثل بفرض الإتاوات المتنوعة على المواطنين والاستيلاء على أصول أملاك خصومها، وتنفيذ شبكات نافذين اختطافات مقابل الحصول على الفدية، فضلاً على اعتمادها على شبكات التهريب التي تضمن لها تدفق رأس مال من وسطاء موالين لحليفها الإيراني وأدواته المحلية في المنطقة. ومع أن المواطنين هم من يعانون من هذه السياسات، تظلّ الموارد المتأتية لجماعة الحوثي محكومة بظروف متقلبة تخضع للظروف المحلية والإقليمية والدولية، فقد أدّى تقليص سعر فارق العملة الوطنية بين المناطق الخاضعة للجماعة ومناطق الشرعية بعد تعيين محافظ جديد للبنك المركزي - فرع عدن إلى حرمانها من إيرادات ضخمة، إلى جانب أن تجريم المنخرطين في شبكات التهريب أصبح هدفاً للقوى الدولية، حيث فرضت الخزانة الأميركية، أخيرا، عقوبات جديدة طاولت شبكة تمويل دولية يشتبه بتمويلها الجماعة، كما تبنّى مجلس الأمن، في نهاية الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، توسيع دائرة حظر الأسلحة على جماعة الحوثي بوصفها جماعة ارهابية.
 
وفي الأخير، تفرض تطوّرات الحرب الروسية - الأوكرانية أثرها على الوضع الاقتصادي في اليمن، سواء بارتفاع أسعار البترول أو أزمة القمح في العالم، وبالطبع، على معالجات جماعة الحوثي وسلطات الحرب لهذه الأزمة، وإنْ على حساب المواطنين.
 
للإفلات من ضغط محدودية الموارد، بدت مدينة مأرب (الغنية بالنفط والغاز) خيارا اقتصاديا وسياسيا، قبل أن يكون عسكريا، بالنسبة لجماعة الحوثي، لتتحايل على أزماتها العميقة، وفساد إدارتها، إلا أن السيطرة على مدينة مأرب بات متعذّراً مع التحولات العسكرية على الأرض، ومن ثم ظل إخضاع المجتمعات وإفقارها الرهان الذي تعوّل عليه الجماعة لاستقرار سلطتها، بيد أن إخضاع المجتمعات اقتصادياً، وإن جرى وفق ظروف الحرب وخوف المواطنين من انتزاع حقوقهم، فهو يلزم سلطة الحرب، أيا كانت مواردها، بإدارتها بطريقة عادلة، أو على الأقل التصرّف بوصفها سلطة أمر واقع، أي الالتزام بواجباتها حيال المواطنين.
 
بيد أن سلطة جماعة الحوثي وجّهت موارد الدولة واقتصاد الحرب الذي تديره لتمويل عصبتها، وكذلك القوى الاجتماعية والسياسية التي صعدتها، إلى جانب سياسة تمتين الولاء داخل أجهزتها السياسية والأمنية والإدارية، لفرض سلطتها في المجتمع، إلى جانب القبائل، حيث خصّصت لزعاماتها رواتب شهرية لضمان ولاءاتهم من جهة، ومن جهة أخرى لتجنيد مقاتلين قبليين، فضلاً عن المقاتلين غير النظاميين الذين تغطّي سلطة الجماعة نفقاتهم، وإن اعتمدت على المجهود الحربي المنتزع من أموال المواطنين.
 
وفي أدنى هرمية الإنفاق، يأتي ما تبقى من الجهاز الإداري في مؤسسات الدولة، وإنْ بهدف الحفاظ على شكلٍ ما من السلطة، وضمان استمرار عمل بعض مؤسسات الدولة، ففي حين يشكّل استمرار انقطاع رواتب موظفي الدولة في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي جريمة إنسانية جرّاء تنصّل سلطات الحرب، سواء سلطة الجماعة أو الشرعية، عن مسؤولياتها حيالهم، فإن معالجة سلطة الجماعة أزمة انقطاع الرواتب لم تكن سوى تحايلا على حقوقهم، إذ إن منح نصف راتب كل ثلاثة أشهر لبعض موظفي القطاعات الحكومية لا يكفي لسداد الحد الأدنى من التزاماتهم المعيشية.
 
 ومن جهة أخرى، كانت معالجاتها رواتب قطاع التعليم الحكومي، وبشكل خاص التعليم الأساسي، كالعادة، على حساب إفقار المواطنين، وذلك بفرض رسوم شهرية على طلاب المدارس تورد في صندوق لسداد رواتب المعلمين، إلى جانب اقتطاع نسبةٍ من الضرائب المفروضة على السلع التجارية لصالح صندوق المعلمين، والذي يعني ليس فقط تحميل المواطنين مسؤولية رواتبهم، بل مضاعفة معاناتهم الاقتصادية، إلا أنها، على الرغم من ذلك، فشلت في سداد رواتبهم منذ أشهر، وذلك لأن قضية رواتب المعلمين، وموظفي الدولة بشكل عام، ليست أولوية لسلطة الجماعة، وإنْ حولت جموع المواطنين إلى فقراء ومتسولين وطالبي إعانات، بيد أن حتى هبة الإعانات تخضع لشروطها أيضاً، وإنْ كانت تجبى من أموال المواطنين والتجار وعائدات الزكاة، وربما تمثّل تجربة الهيئة العامة للزكاة التي أسّستها الجماعة قبل سنوات مثالاً على ذلك، فإنها وإن جاءت باسم دعم الفقراء، إلا أن أموالها خصّصت لدعم الموالين للجماعة.
 
سياسة الإخضاع الاقتصادي والتجويع والإفقار في بلد يعيش عامه الثامن من الحرب تدفع اليمنيين إلى مجاعة حقيقية غير مسبوقة، تفاقمها حرب الداخل التي أعادت، قبل أي شيء آخر، توزيع الثروات والموارد لصالح طغمةٍ من المنتفعين، وحرب باتت تهبّ رياحها من الخارج، إذ باتت الحرب الروسية الأوكرانية همّاً آخر يرهق اليمنيين، ليس فقط كونها حوّلت الحرب التي تجري في بلادهم إلى خبر ثانوي في نشرات الأخبار، بما في ذلك إعادة اصطفاف القوى الدولية، ما يعني إطالة أمد الحرب في اليمن، وإنما تبعاتها الاقتصادية التي تمظهرت في أسبوعها الأول فقط إلى ارتفاع تاريخي في سعر البترول، حيث تجاوز سعر الليتر الواحد ثلاثة دولارات في صنعاء، إلى جانب أزمة القمح، الغذاء الرئيسي لليمنيين، الذي تضاعفت أسعاره جرّاء الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ يعتمد اليمن على 78% من صادراته من القمح من البلدين المحتربين، وفي ظل انتهازية سلطات الحرب وسياساتها الاقتصادية التي تمتصّ خيرات اليمنيين، وتعوّض أرباحها من قوتهم اليومي، فإن الأسوأ ينتظر جموع المُفقرين.
 
 
*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر