محو "يمنية" اليمن


عبد الحليم قنديل

لا يكاد أحد يذكر ما جرى ويجرى لليمن، البلد العربي الأصيل العريق حضاريا، الذى فقد صفة "السعيد" اللصيقة من زمن، وتحول إلى جغرافيا حرب تبدو بلا نهاية، لا تؤدى فيها الأطراف اليمنية سوى أدوار "الكومبارس" الهامشية، بينما أدوار البطولة محجوزة لأطراف غير يمنية بالهوية أو بالهوى، في خبر يومي كئيب طافح بسيل الدماء والدمار، مل السامعون من تكراره، وتبادل الجولات فيه، بين غارات التحالف السعودي الممتدة من "صنعاء" إلى "مأرب" و"الحديدة"، وهجمات "الحوثيين" بالطائرات المسيرة والصواريخ "الإيرانية" على المدن السعودية، من "الرياض" إلى "خميس مشيط" ومنشآت "أرامكو"، ومن دون أمل قريب في جلاء الغبار عن وجه اليمن الحزين المتواري .
 
ولا تعدم من يلوك كلاما بائسا طوال قرابة سبع سنوات تنقضي، عن المبادرة الخليجية ونتائج مؤتمر "الحوار الوطني" وقرارات مجلس الأمن، وعن "الشرعية اليمنية"، الهاربة التائهة برئاستها الافتراضية في قصور الرياض المخملية، وعن حكومتها المستضافة أحيانا في "عدن" أقصى الجنوب.
 
بينما "الحوثيون" يتبجحون بأنهم صاروا حكومة اليمن كله في العاصمة "صنعاء"، ويدفعون بعشرات الألوف من المساكين إلى محارق النار، فلا شيء يهم عندهم، سوى مواصلة الحرب واستمرار القتال، الذى أسقط في أيديهم أنقاض أغلب محافظات الشمال اليمنى حتى اليوم، من "صعدة" إلى "عمران" إلى "حجة" إلى "المحويت" إلى "صنعاء" إلى "ذمار" إلى "ريمة" إلى "إب" إلى "البيضاء"، ولم يتبق للقوات المناوئة المدعومة من السعودية في المقابل، إلا وجود مزعزع من قبل الحوثيين، في محافظات "الجوف" و"تعز" و"الحديدة" و"مأرب"، وقد تحولت الأخيرة إلى عنوان معركة مميتة على مدى يقارب العام الأخير كله، يستميت فيها "الحوثيون"، ويخوضون قتالا انتحاريا، فقدوا فيه نحو عشرين ألفا من مقاتليهم، وسيطروا على معظم مديريات "مأرب"، ومن دون أن يبلغوا فيها هدفهم بعد، الذى هو ليس إلا مدينة "مأرب" وما حولها من حقول البترول والغاز الطبيعي، وهى الجائزة التي يسعون لنيلها، خصوصا مع ضعف الموارد الطبيعية في محافظات الهضبة الشمالية.
 
بينما لم يعد جنوب اليمن موضع اهتمام في حساب الحوثيين، برغم وجود هامشي لهم في محافظة "الضالع"، التي يسيطر على أغلبها "المجلس الانتقالي الجنوبي"، إضافة لسيطرته على "عدن" و"لحج" و"أرخبيل سقطرى"، والمجلس المذكور ممول إماراتيا كما هو معلوم، ويهدف لفصل محافظات الجنوب كلها، لكنه يعجز عن اتمام سيطرته العسكرية جنوبا، فلا تزال القوات "الشرعية" المدعومة سعوديا هناك، وتنازع قوات "الانتقالي" في محافظة "أبين"، إضافة لوجودها المنفرد في محافظات "المهرة" و"شبوة" و"حضرموت" ، وينشغل الطرفان غالبا باشتباكات متواترة، تفشل اتفاقات "الرياض" في وقفها كل مرة.
 
وكأن كل الأطراف "الشرعية" صارت تكتفى بقسمة الجنوب، وتترك للحوثيين فرصة إكمال السيطرة شمالا، خصوصا بعد الانسحابات المريبة من "الحديدة" وسواحلها، بدعوى التفرغ والنهوض لخوض معركة "مأرب"، التي هرب إليها مليونا مواطن يمنى نازح، يطاردهم "الحوثيون" إلى أدنى حدود الشمال، ويهددونهم باللحاق بمصائر نحو 300 ألف مواطن قتيل، فوق مآسي التشريد والفقر والجوع والأوبئة، التي أهلكت وتهلك ثلثي سكان اليمن، أي 20 مليون من الثلاثين مليون يمنى، إضافة لملايين هربت من الجحيم إلى عواصم الشتات العربي وغير العربي.
 
والمعنى للأسف، أنه لم يعد من شيء "يمنى" في الدراما اليمنية، اللهم إلا نصيب الضحايا النازفين والنازحين والمعوزين والمشردين والجائعين والمقتولين والثكالى، فقد تكون الحروب قدرا لا مفر منه أحيانا، وعدالة الحرب إن وجدت من عدالة قضاياها، لكن الحروب في اليمن وعليه تبدو بلا قضية عادلة، أو بقضية جرى طمس ملامحها، حملت اسم الدفاع عن واسترداد "الجمهورية"، وردع انقلاب "الحوثيين" منذ سبتمبر 2014، و"الحوثيون" من طينة "المملكة المتوكلية"، الأكثر تخلفا وظلامية في مطلق التاريخ الإنساني، وظلت قائمة من 1918 إلى 1962، حين قامت ثورة "الضباط الأحرار"، وأعلنت قيام "الجمهورية"، التي انتصرت لها قوات مصر عبد الناصر، بينما حاربها ملوك السعودية خوفا على عروشهم، وبتعاون ظاهر وخفى مع أمريكا وإسرائيل و"الإخوان" وبريطانيا المحتلة للجنوب وقتها، ولم تتوقف حرب السعودية ضد "الجمهورية" اليمنية حتى بعد رحيل عبد الناصر، وبدت أصابعها ظاهرة في عملية اغتيال الشهيد الناصري "إبراهيم الحمدي" عام 1977، وقد كان الحمدي أعظم رؤساء اليمن الجمهوري.
 
وبعد تغييبه، عملت المملكة السعودية على تفريغ الجمهورية اليمنية من أي معنى جمهوري، ودفعت لحكم على عبد الله صالح ثلاثينى السنين عشرات المليارات من الدولارات ، كان يعطى منها لعائلته وقبائل المقربين و"الأفاعى التي كان يرقص فوق رؤوسها" كما كان يحب أن يقول ، وإلى أن جرى قتله على يد "الحوثيين" في 2 ديسمبر 2017، بعد أن كانت السعودية أعلنت الحرب ضد الحوثيين أوائل 2015، ومن دون قضية ذات مصداقية، فالحوثيون مجرد نسخة محدثة إيرانيا للإمامة المتوكلية، التي حاربت السعودية من أجلها ، وجاءت الدعوى هذه المرة تحت عنوان إنقاذ الجمهورية ورئيسها "عبد ربه منصور هادى"، وكأن السعودية "الملكية" العضود، يرد أن تنتصر لقضية جمهورية، وهو افتراض عبثي تماما.
 
 بينما القصة في مكان آخر، فالسعودية لا تريد حكما في اليمن، إلا أن يخضع لمشيئتها وأولويات عائلتها المالكة ، و"الحوثيون" على تخلفهم الفكري، ونزعتهم "السلالية" العنصرية، وتزويرهم و"تشييعهم" للمذهب "الزيدى"، يريدون حكما إماميا كالذي كان قبل ميلاد الجمهورية، وليست هذه مشكلة السعودية مع الحوثيين، بل المشكلة في خطرهم الأمني ، وفى كونهم أداة لإيران التي تحارب الحكم السعودي، فوق دعوى الحوثيين "الهاشمية" المناوئة تاريخيا لحكم الأسرة السعودية، وهذه كلها جوانب خطر وجودي، تدفع الحكم السعودي لخوض حرب لا أمل في كسبها، ولا وقف نزيف خسائرها المدمرة للهيبة السعودية المفترضة في منطقة الخليج، فوق ضرائب الدم ومئات المليارات من الدولارات، وهو ما يدفع الرياض للبحث عن تسوية مع "الحوثيين"، أو بالدقة تسوية مع "إيران" التي توظف "الحوثيين" عبر جسور اتصال وتفاوض في بغداد وفى غيرها، وعبر حث الرعاة الأمريكيين على تدخل مباشر.
 
بينما واشنطن لا يعنيها سوى استمرار الصراع ، وسوى المزيد من حلب المال السعودي ، وبينما طهران لا تبدو مستعدة لتسوية تريح السعوديين، وتضيف الحوثيين إلى مجموع أوراقها الضاغطة على الأمريكيين وتوابعهم، وتربط مصير نزاعات المشرق العربي والخليج كلها بمصير برنامجها النووي، وبمفاوضات "فيينا" الجارية المتعثرة لإحياء الاتفاق النووي، ولإلغاء العقوبات الأمريكية الخانقة للاقتصاد الإيراني، ولا مانع عند طهران من تأجيل الحسم في اليمن إلى وقت مقبل، تكون قد ضمنت فيه استقرار حكم أتباعها "الحوثيين" لكل الشمال اليمنى، وبرضا واعتراف كامل من السعودية هذه المرة، وبشروط لا تتعدى وقف هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية الإيرانية، وضمان تأمين مدن السعودية ومنشآتها البترولية.
 
والمحصلة أخيرا وبوضوح، أن السعودية مهتمة بمصائر وأمن مملكتها أولا، وليس بمصير اليمن ولا بوحدة دولته التي تمزقت، ولا بقضية "الجمهورية" اليمنية ضد "الإمامية الملكية" العائدة في صورة الحوثيين، ولا مانع عند الرياض من التضحية وقت الحاجة بالرئيس "هادى" وحكومته الكارتونية، وبنتائج مؤتمر "الحوار الوطني"، الذي كان يمنيا جامعا قبل انقلاب الحوثيين، وقضى بتحويل اليمن إلى حكم جمهوري فيدرالي بستة أقاليم (آزال ـ الجند ـ تهامة ـ حضرموت ـ سبأ ـ عدن)، فقد صار ذلك كله من الماضي الذي لا يعود.
 
ولم يعد مطلوبا من جانب المتحاربين والممولين غير اليمنيين، بل وضعت الحرب خرائطها وحدود الدم، المحكومة بتقاسم مصالح قد تحين فرصته، وقد تمنح فيه إيران حق الوصاية على إقليم عاصمته "صنعاء" تحت حكم الحوثيين، وقد تمنح فيه السعودية حق الوصاية على إقليم عاصمته "المكلا" الحضرموتية تحت حكم الموالين، وقد تمنح فيه "الإمارات" حق الوصاية على إقليم عاصمته "عدن" تحكمه جماعة المجلس الانتقالي، بينما لا يبقى لمعنى اليمن الموحد الجمهوري، ولا لملايين اليمنيين المعذبين المقتولين المعانين المهانين، سوى حق قراءة الفاتحة في جنازة اليمن الذى كان، فقد انتفى كل معنى يمنى خالص في الحرب الملعونة، وصارت قسمة الكعكة اليمنية حقا حصريا للجيران الأقربين والأبعدين، وهذا أخطر ما ينتظر اليمن بعد حربه الأخيرة، التي لم تكن أهلية في أي وقت، بقدر ما كانت صداما وصراعا إقليميا، ليس لليمنيين فيه ناقة ولا جمل، ولا وطن يبقى ولا دولة تستعاد، بل حرب إفناء ومحو ليمنية اليمنيين وبلدهم الضحية.
 

*نقلا عن مجلة الشراع

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر