تُختبر الجماعات المحلية، أيّاً كانت صيغة وصولها إلى السلطة، أو أيديولوجيتها، بقدرتها على إدارة سياستها الدولية، بما يؤدي إلى كسرها حالة الحصار الدولي الذي تواجهه، إلّا أنّ جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، وأثبتت أنّها، بوصفها جماعة مليشياوية، فشلت في التحول إلى سلطة أمر واقع، ما زالت تراهن على استمرار استعداء المجتمع الدولي، لفرض شروطها وشروط حليفها الإقليمي. ففي منتصف الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، اقتحمت الجماعة مُجمع السفارة الأميركية في العاصمة صنعاء.
 
سبق ذلك قيامها بحملة اعتقالات طاولت موظفي السفارة، بمن فيهم عاملون في الوكالة الدولية للتنمية. وفيما أعادت حادثة اقتحام جماعة الحوثي حوادث مشابهة، تعرّضت لها السفارات الأميركية في العقود الأخيرة، فإنّ اقتحام السفارة في صنعاء يختلف في دوافعه السياسية، وإن بدا أنّ تقليد جماعة الحوثي التجربة الإيرانية في احتجاز موظفي السفارة الأميركية، كما حدث في طهران في نهاية السبعينيات، في ما عُرفت بأزمة "الرهائن الأميركيين" أنّها تستحضر التقاليد العدائية لحليفها الإقليمي، وإن جرّ عليها خسائر كثيرة.
 
في المقابل، كشف التعاطي الأميركي مع "الرهائن اليمنيين" أنّها لا تملك أوراقاً سياسية فاعلة، للضغط على جماعة الحوثي، ولا على حليفها الإيراني، ومن ثم تشكّل حادثة اقتحام السفارة واعتقال الموظفين منعطفاً جديداً في العلاقة بين جماعة مُقامرة تنفذ أجندات حليفها الإقليمي وقوى دولية تقوم أولوياتها على تحقيق مصالحها أولاً، بما في ذلك استمالة حلفائها وتحجيم خصومها، وفي علاقة مضطربة، مفتوحة على احتمالات عديدة يحاول الخصوم، عبر أدواتهم، فرض قواعد معركتهم في اليمن.
 
 
تحضر إيران باعتبارها حجر الزاوية في إدارة تموضعات جماعة الحوثي، وبشكل خاص، في علاقتها بالولايات المتحدة، فإضافة إلى تبنّي الجماعة الأيديولوجيا الإيرانية في السياسة الدولية، التي يمثل شعار "الموت لأميركا وإسرائيل" لافتتها السياسية، وإنْ كانت لا تخرُج عن دائرة التضليل الإعلامي، بهدف كسب أنصار للجماعة، فإنّ إيران، الحليف الإقليمي لجماعة الحوثي، ظلت هي الموجّه لخياراتها العسكرية والسياسية في اليمن والمنطقة، فتحوّلت الجماعة إلى أهم أذرعها العسكرية في الإقليم، إذ وجهت جزءاً كبيراً من حربها في اليمن لضرب حلفاء أميركا في المنطقة، فشكّلت هجمات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي تستهدف مواقع حيوية في العُمق السعودي سلاحاً فاعلاً لتهديد السعودية، بما في ذلك انكشافها عسكرياً، قوة إقليمية متدخلة في دولة مجاورة لإعادة حليفها إلى السلطة، فيما عجزت عن الدفاع عن أراضيها.
 
في المقابل، احتكمت علاقة الولايات المتحدة بجماعة الحوثي لموقفها من إيران، وهو ما تمظهر في استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة حيال الحرب في اليمن، من خلال التصعيد مع إيران، ومن ثم مع وكيلها المحلي، مقابل استرضاء السعودية. ولذلك، سعت إدارة الرئيس جو بايدن إلى إيجاد مقاربة جديدة، تهدف إلى اختراق ديناميات الصراع الإقليمي في اليمن، وذلك بتطبيع العلاقة مع إيران من جهة، وتوظيفها للضغط على وكيلها المحلي، ومن جهة أخرى، التعاطي مع جماعة الحوثي سياسياً، طرفاً محلياً في الحرب، مقابل تقنين الإدارة الأميركية لعلاقتها مع حليفها السعودي، بما في ذلك تقييد حربه في اليمن.
 
ففي مقابل استئناف مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران، شطبت إدارة بايدن جماعة الحوثي من القائمة الأميركية للإرهاب، وعلقت صفقات بيع الأسلحة الأميركية للسعودية، وأوقفت دعم عملياتها العسكرية في اليمن، فضلاً عن محاولتها، من خلال مبعوثها تيم ليندر كينغ، دفع العملية السياسية من طريق تكثيف جهوده الدبلوماسية في المنطقة، إلّا أنّ وصول المسارات السياسية التي تحرّكت وفقها إدارة بايدن إلى حالة انسداد، فرض، كما يبدو، عليها تجريب خيارات أخرى تجاه جماعة الحوثي وحليفها الإيراني، أو تنويع صيغ التطويق، ما جعل الجماعة تستهدف السفارة الأميركية في صنعاء.
 
استراتيجية الاحتواء التي انتهجتها إدارة الرئيس بايدن حيال جماعة الحوثي، مقابل تحييد تدخل حليفها الإقليمي في اليمن، أتت في سياق تغيير استراتيجيتها الخارجية في المنطقة، التي بدأت بتخفيض وجودها العسكري في منطقة الخليج، تبعه انسحاب جنودها من أفغانستان، والانشغال بحلّ أزماتها الداخلية.
 
وإذا كانت السياسة الأميركية قد أفضت، ضمن أسباب أخرى، إلى سيطرة حركة طالبان على أفغانستان وإقامة إمارة إسلامية متشدّدة، فإنّ سياستها في اليمن، ما يقارب من عام، فشلت في تحقيق الحد الأدنى من نتائجها، ليس فقط وقف الحرب، بل خفض التصعيد العسكري، بما في ذلك وقف هجوم جماعة الحوثي على مدينة مأرب، المعقل الأخير للسلطة الشرعية، وكيل السعودية في اليمن.
 
ومن ثم أدركت الإدارة الأميركية أنّها ضحّت، إلى حد ما، بحليفها الرئيس في المنطقة، جرّاء الالتزامات السياسية التي قطعها الرئيس بايدن لوقف الحرب في اليمن، سواء بوقف دعمه اللوجستي والسياسي للعمليات العسكرية السعودية، أو وقف صفقات تسليحها، وأنتج ذلك كما يبدو اختلالات أخطر بالنسبة إلى أميركا، أضرّت بمصالحها الحيوية، فإضافة إلى لجوء السعودية إلى دول أخرى لشراء الأسلحة.
 
 وهو ما يعني حرمان الخزينة الأميركية عائدات صفقات الأسلحة مع السعودية، بما في ذلك شغل منافسها الصين الفراغ الذي أحدثه انسحابها في المنطقة والخليج، فإنّ سياستها في اليمن أدّت إلى إضعاف حلفائها، وتمدّد جماعة الحوثي إلى مناطق جديدة، بما في ذلك تصعيدها، وربما بشكلٍ غير مسبوق لهجماتها العسكرية على جبهات مدينة مأرب، في محاولةٍ مستميتةٍ لإسقاط المدينة، كذلك استمرّت هجمات الصواريخ الباليستية على السعودية، مقابل رفض جماعة الحوثي مبادرات وقف الحرب، وهو ما صعّد من انتقاد إدارة بايدن لتفريطها بحلفائها في اليمن، وتمكين وكيل إيران، إذ اتجهت، في الأشهر الأخيرة، نحو سياسة تجسير الهوة بين موقفها المعلن لوقف الحرب في اليمن وتحقيق أهدافها البراغماتية.
 
 
تمحورت سياسة إدارة الرئيس بايدن لوقف الحرب في اليمن في مستويين: إقليمي، دفع السعودية وايران، طرفي الحرب الإقليمية في اليمن، إلى محادثات جانبية غير مباشرة، وتخفيض توتر دول الخليج مع إيران، وذلك في محاولة لتجفيف منبع الصراع الإقليمي في اليمن، ومن ثم خطوة في طريق وقف الحرب، إذ نجحت الإدارة الأميركية، إلى حد ما، في تفعيل العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران ودول الخليج، مع استمرار التفاوض حول ملف إيران النووي، مقابل طمأنة حلفائها في الخليج حيال استمرار ردعها، للتهديدات الإيرانية، وذلك بتشديد الرقابة على النشاط الإيراني في المياه الإقليمية واليمنية بشكل خاص، وتنويع الحضور العسكري الأميركي في المنطقة.
 
 إذ نفذت البحرية الأميركية عمليات عديدة ضد السفن الإيرانية، إضافة إلى القيام بعمليات تدريبية مشتركة مع الدول المعادية لإيران في المنطقة. وعلى المستوى المحلي، طمأنة حليفها السعودي ومنحه حرية تنفيذ عملياته العسكرية في اليمن، بما لا يسبب لإدارة بايدن أيّ مساءلة سياسية أو أخلاقية، مقابل محاولة تحجيم جماعة الحوثي، إذ استأنفت إدارة بايدن، أخيراً، بيع الأسلحة للسعودية خلافاً لتعهداتها السياسية، فقد أقرّت بيع أسلحة جديدة بقيمة 650 مليون دولار، وتضم الصفقة 280 صاروخاً متوسط المدى "جو - جو"، وتعتبر هذه الصفقة أكبر صفقة لإدارة بايدن مع السعودية.
 
ومن جهة أخرى، تغاضت إدارة بايدن عن تكثيف السعودية عملياتها العسكرية في اليمن، بما في ذلك استمرار قصفها مدينة صنعاء. وفيما أدّى تكثيف الطيران السعودي غاراته على المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي إلى إبطاء هجمات مقاتليها في جبهات مأرب إلى حد ما، فإنّ الإدارة الأميركية تأمل أن يحقق سلاح الطيران ما فشل به المقاتلون من حلفاء السعودية على الأرض، وهو تغيير المعادلة العسكرية، ووقف تمدّد جماعة الحوثي، بما في ذلك دفع مقاتليها عن مدينة مأرب، بحيث تساهم هذه التحوّلات في صياغة شروط جديدة، تمكن المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيم ليندر كينغ، من الضغط على جماعة الحوثي للانخراط في العملية السياسية.
 
 
 إضافة إلى ذلك، فرضت الإدارة الأميركية عقوبات على قيادات عسكرية وسياسية في الصفوف الأولى لجماعة الحوثي، جديدها فرض عقوبات على القيادي العسكري في الجماعة، صالح مسفر الشاعر، قائد منظمة الدعم اللوجستي العسكري، والمعين من الجماعة حارساً قضائياً على الأصول الخاصة بخصومها، في محاولة أميركية لتقييد قوة الجماعة، أو على الأقل تجفيف جزءٍ من منابعها الاقتصادية.
 
 وبالتالي، انعكست سياسة إدارة بايدن سلباً على جماعة الحوثي وحليفها الإيراني، ففيما تعوّل إيران على إسقاط وكيلها في اليمن مدينة مأرب، لمقايضتها في إدارة مفاوضات ملفها النووي، وكذلك تحسين حظوظ وكيلها المحلي في المفاوضات السياسية مستقبلاً، ترى جماعة الحوثي معركة مأرب مصيرية، لضمان موارد اقتصادية، ثم تثبيت سلطتها، ومن بعدها تعقيد الإدارة الأميركية حلم الجماعة في إسقاط مدينة مأرب، جرّاء سياستها الجديدة في اليمن، ما استدعى، كما يبدو، ردّ فعل يائساً بالهجوم على السفارة الأميركية.
 
لا يمكن فصل حادثة اقتحام السفارة الأميركية في صنعاء عن التوترات السياسية بين أميركا وإيران ووكيلها، وعن إدارة القنوات الخلفية لصراع القوى في اليمن، بما في ذلك أثره في تطورات الحرب في جبهات القتال، إلّا أنّ الأخطر من معركة تكسير الأصابع، اعتقال عشرات من الأبرياء اليمنيين، وتعريض حياتهم للخطر في أقبية سجون جماعة الحوثي.
 
في المقابل، ومع أنّ من المبكّر تقييم نتائج السياسة الأميركية في اليمن، بما في ذلك قدرتها على دفع العملية السياسية، أو الحد من جموح جماعة الحوثي، فالأكيد هنا أنّ دولةً منزوعة السيادة كاليمن ستظل، وربما إلى وقتٍ غير معلوم، وجهة مناسبة لاختبار قُدرة المقامرين ونزقهم.
 

*نقلا عن العربي الجديد
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر