في منطق القتلة، لا مكان للمحظورات التي يقنّنها الحس الأخلاقي والإنساني. وفي منطقها الدموي، يصبح كل شيء مباحا، بما في ذلك تحويل الإنسان إلى هدف مجاني للقتل. وفي اليمن، تتفتق عبقرية القتل في ممارسات أطراف الصراع المحلية والإقليمية وسلوكها اليومي تجاه اليمنيين، بما في ذلك تكييفها للجرائم، من خلال تعطيل مسارات التحقيق في جرائمها، والتشويش على نتائجها بهدف إفلاتها من العقاب، إذ لم تكن حادثة الهجوم الإجرامي على مطار عدن الدولي في نهاية الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، التي أسفرت عن مقتل أكثر من ثلاثين مدنيا، وإصابة العشرات، سوى صورة مكثفة للانحدار الأخلاقي الذي وصلت إليه أطراف الصراع في اليمن، فإضافة إلى انتهاكها القوانين الدولية التي تجرّم استهداف المنشآت المدنية، فإن تصدير معلومات متناقضة ومضللة حيال الجريمة، وعدم كشف الحقيقة تستهدف في المقام الأول التغطية على الفاعلين المباشرين واستثمار الجريمة لأغراض سياسية. 

 

ومع تبادل أطراف الصراع المحلية والإقليمية الاتهامات، كالعادة، حيال جريمة استهداف مطار عدن، فالأكيد هنا أن الحكومة لم تكن هي المستهدف، إذ لم يُصب أي وزير، وكان يمكن تفجير الطائرة قبل هبوطها في المطار، لو كانت هدفاً، الأمر الذي يجعل المدنيين العزّل وحدهم الهدف المباشر للهجوم الإجرامي. والشيء الآخر أن تعاطي أطراف الصراع مع جريمة استهداف المطار يشير إلى تورّطها، وإن بمستويات متعدّدة، سواء بتنفيذ العملية، أو عدم تأمين المطار، وكذلك توظيف العملية سياسياً للنيْل من خصومها، بما في ذلك تحايلها على مطالب تشكيل لجنة تحقيق دولية.  

   

تتقاطع أهداف الخصوم والحلفاء في الجريمة، وهو ما يضعها جميعاً في موقع الشبهات، ولكونها القوة العسكرية الرئيسة في معسكر خصوم السلطة الشرعية، فإن جماعة الحوثي تعد طرفا متهما باستهداف مطار عدن الدولي، إذ أفيد بأن قصف المطار تم بثلاثة صواريخ باليستية، ما يشبه نمط استهداف معسكرات السلطة الشرعية في مدينة مأرب الذي نفذته جماعة الحوثي في سنوات الحرب، وحدّدت منطقة الحوبان، شرق مدينة تعز، الخاضعة لسلطة الجماعة منطقةً يرجّح انطلاق الصواريخ الباليستية منها، وكذلك لأن جماعة الحوثي أكثر الأطراف المستفيدة من الهجوم، سواء بإرباك تحالف اتفاق الرياض والحكومة المنبثقة عنه، وكذلك تجريف أمل المواطنين بقدرة الحكومة على حمايتهم، بما في ذلك عجزها عن تطبيع الأوضاع الأمنية والسياسية في مدينة عدن. 

 

بالإضافة إلى تكريس نفسها قوى عسكرية وقتالية، بما في ذلك امتلاكها أسلحة متطوّرة تصل إلى أهداف بعيدة، مقابل ضعف خصومها. وفيما نفت الجماعة تورّطها باستهداف المطار، بما في ذلك تحميل دول التحالف والقوى المحلية الموالية لها، فإنه في حال تنفيذها الهجوم، ستكون نتائجه بعيد الأمد على الجماعة خطيرة، وأهم من تحقيق مكسب آني ضد خصومها، إذ سيؤكد أن جماعة الحوثي خطر حقيقي، ليس فقط على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وإنما على اليمنيين سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل، بما في ذلك فرص تحقيق سلامٍ مستدام في اليمن، ومن ثم سيشكل تصنيفها منظمّة إرهابية خارجة على القانون ضرورة ملحّة لتثبيت الاستقرار في اليمن والإقليم. 

  

لم يكن إعلان الحكومة اليمنية تحميل جماعة الحوثي، ومن ورائها إيران، المسؤولية المباشرة عن الهجوم الذي استهدف مطار عدن، سوى تماهٍ مع رواية حليفها السعودي الذي لا تستطيع الشرعية تجاوزه، أكثر منه كشفاً عن المتورّطين في الهجوم. ومع أن ذلك لا يثبت علاقة جماعة الحوثي باستهداف مطار عدن أو ينفيها، فإن سرعة اتهام الحكومة الجماعة، وذلك بعد دقائق من وقوع الهجوم، وقبل أي تحقيقات، ثم مطالبة الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، من الحكومة تشكيل لجنة تحقيق يجعل من الرواية الحكومية ضعيفة، إضافة إلى تناقضها، إذ صرّحت عن إسقاط طائرة مسيّرة استهدفت قصر معاشيق، تزامن مع الهجوم على المطار، ثم أعلنت تدميرها، وبالطبع من دون عرض بقايا الطائرة أو الصواريخ، فيما أشار بيان المجلس الانتقالي الجنوبي إلى تورّط قوى داخلية وخارجية بالهجوم، كما طالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية أخيرا، فضلاً عما أكده بعض الأهالي من تزامن إطلاق الصواريخ الباليستية التي قصفت المطار، مع دوي قذائف الهاون من أحياء قريبة من مطار عدن، بما في ذلك سماع اشتباكاتٍ، وهو ما يفرض تخميناتٍ متعدّدة.  

   

أما أن يكون الهجوم تم بتنسيق بين قوى محلية وإقليمية مع جماعة الحوثي، في حال قيامها بذلك، أي أن هناك شركاء متعدّدين سواء بشكل مباشر أو من خلال تسهيل عملية استهداف المطار، أو حدوث اختراق أمني، بالطبع مع تنسيق محلي وإقليمي، فيما كشف تعاطي حكومة اتفاق الرياض مع الجانب الأمني، بما في ذلك عدم اتخاذها احتياطات تجنيب المدنيين القتل، وكذلك إدارتها التداعيات الإنسانية للهجوم افتقارها الخبرة الإدارية والسياسية في التعامل مع الأزمات. 

 

ومن جهة ثانية، يكشف استغلال القوى المنضوية في حكومة اتفاق الرياض استهداف مطار عدن، وتوظيفه سياسياً، حجم الأزمة الداخلية بين القوى المنضوية في الحكومة وتربصّها ببعضها بعض، وربما تكشف لنا الحملات الإعلامية بين نشطاء المجلس الانتقالي الجنوبي ونشطاء حزب التجمع اليمني للإصلاح وتبادل الاتهامات حيال تنفيذ جريمة المطار، توظفيهما الجريمة لتحقيق أجنداتهما السياسية، مقابل تبرئة جماعة الحوثي، عن عمق أزمة الأطراف المحلية في معسكر السلطة الشرعية وسقوطها الأخلاقي. 

  

بوصفها قوة إقليمية متدخلة في اليمن، تستطيع السعودية كشف المتورّطين المباشرين في الهجوم الذي استهدف مطار عدن الدولي، وذلك لامتلاكها أجهزة استخباراتية متطوّرة، وكذلك إمكانية حصولها على صور الأقمار الصناعية، إلا تجاهل السعودية مطالب تشكيل لجنة تحقيق دولية حيال الهجوم على مطار عدن يثير استفهامات كثيرة، ربما تخشى تورّط قوى محلية من حلفائها بالهجوم، سواء بالتنسيق مع الجماعة أو بالاشتراك المباشر، الأمر الذي قد يؤدّي إلى إسقاط اتفاق الرياض والحكومة المنبثقة عنه، وهو ما يعني القضاء على جهودها الدبلوماسية طوال عامين في تطبيع علاقة حلفائها، ولذلك اكتفت بالرواية التقليدية عن تورّط جماعة الحوثي وإيران بالهجوم.  

  

  

في المقابل، يخضع المطار لسلطة السعودية، العسكرية والأمنية المباشرة، عامين. وبالتالي، يقع تأمينه ضمن مهامها قوة إقليمية متدخلة في اليمن. وفيما يمكن إدراج الأداء السعودي في استسهالها المعتاد بأرواح اليمنيين، بجعلها مطار عدن مكشوفاً أمام أي هجمةٍ من الخارج أو اختراق أمني من الداخل، كما يؤكد سياقات الهجوم الذي استهدف المطار، على اختلالات اتفاق الرياض، بصيغته السعودية التي ركّزت على تشكيل الحكومة، ورحّلت الشق الأمني والعسكري، وهو ما يعني استمرار المشكلة الأمنية التي تستهدف حياة المواطنين. 

 

ومع تحميل السعودية جماعة الحوثي المسؤولية عن الهجوم، فإن نتائجه السياسية تصب في صالحها، فمن جهة، قد يؤدّي تسويق تورّط جماعة الحوثي في الهجوم إلى توحيد فرقاء المملكة المتصارعين نحو عدو واحد، وهو الجماعة. ومن جهة ثانية، تكون السعودية قد نجحت في التحايل على أي مطالب محلية بعودة الرئيس اليمني إلى مدينة عدن، بذريعة خطورة الوضع الأمني في المدينة واستحالة حمايته من الاستهداف، وهو بالطبع ما يخدم أجندتها في اليمن. 

  

المسافة كبيرة بين جرائم الحرب الناجمة عن الطيران والقذائف وتصنيع جريمة مدروسة تستهدف قدراً أكبر من البشر، ولا تقبل أي مساومات أو توظيف سياسي، أو التحايل على تشكيل لجنة تحقيق دولية للكشف عن المنفذين للجريمة، إذ تتعدّى جريمة الهجوم على مطار عدن حالة الحرب ذاتها، وأي أهداف سياسية من ورائها إلى القصدية المباشرة في إزهاق أرواح الأبرياء العزّل، وفي مكان هو ليس ساحة قتال بين المتصارعين، وإنما ممر آمن للعائدين إلى اليمن والمسافرين، وبحماية إقليمية من السعودية. 

 

*نقلا عن صحيفة "العربي الجديد" 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر