لأنها سوريا


محمد علي محروس

 
الأرض حمراء، والسماء سوداء، القيامة هنا تطرق أبواب الوجود، وجهنّم قد تبدّت على امتداد مئات الكيلو مترات وتشققت سبع طبقات من أرض إلى أرض.. إنها سوريا، الدولة التي ثار أبناؤها للإصلاح فصُدوا بالقتل والاعتقال، ولمّا أرادوا الثورة دون نقصان، نُكّل بهم وشُردوا، ولمّا همّوا بالدفاع عن أنفسهم، قُصفوا بالطائرات، ودُمّرت مدنهم فباتت أثراً بعد عين.
 
لأنها سوريا، فقد تداعت عليها الأمم من كل حدب وصوب، فوقعت ضحية لشهوة السلطة السلالية المتمثلة في الأسد وطبقة العلويين ومن حذا حذوهم من النصيرين ، ووقعت ضحية متلازمة الهوس الدولي المتبلور في تقاسم كعكة الشرق الأوسط، كلٌ بما هم وكيفما استطاع!
 
فالنظام السوري العتيق، قائم على الاستبداد والرؤى الشيوعية المتجردة من القيم الإنسانية الحقيقية، ولا يملك ذرةً من العقلانية وتقدير المصلحة العامة؛ إذ يتخذ من قاعدة " ما أريكم إلا ما أرى" منطلقاً للحكم وتحقيق طموحاته المرتبطة بايدلوجيا لا تتناسب مع الطبيعة السيكولوجية للشعب و تتجاوز حدود سوريا، فهو شيوعي ماركسي ذو توجه بعثي فُصّل له؛ فحاز بذلك مكانه لدى الروس كحليف وثيق له أهميته الاستراتيجية في منطقة أريد لها أن تبقى مشتعلة بالصراعات على الدوام، وله ارتباطاته العقائدية والسلالية ذات التوجهات الشيعية المتطرفة التي لا ترى الحكم إلا في سلالة واحدة لها حظوتها النسبية واحترامها الديني المقدّس ضمن سلسلة " الزعيم الروحي الأوحد"، فكان أن تبع إيران، وتمحورت توجهاته على هذا الأساس للعمل تحت ظل شعارات جوفاء ظاهرها المقاومة والممانعة وباطنها الانبطاح وتحقيق ما يملى عليه بحذافيره، وإن خالف أو ارتجل فالعواقب وخيمة والدلائل على ذلك لا تعد ولا تحصى.
 
لأنها سوريا، فقد تباينت ردود الأفعال حولها منذ أول مشروع لقرار أممي يدين استخدام القوة والإفراط في التعامل مع المظاهرات المطالبة بمستقبلها وضمان حقها في عيش كريم متوفر، ووضعت الأمم المتحدة نفسها في حفرة عميقة من الخزي والعار، ترجمها الإنسانية كل يوم بعدد ضحايا الوحشية الاستبدادية، ولا يُستثنى مجلس الأمن من تركة المجازر؛ إذ يتيح الفيتو الروسي والصيني المجال لمزيد من الجرائم التي خلّفت مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين المشردين ومدن لم تعد تسكنها سوى الأشباح والأطلال المتهالكة.. حتى جولات الحوار تدور في حلقة مفرغة من الخلافات لا نتائج لها سوى مئات الضربات الجوية المركّزة بأسلحة تجريبية وبراميل تدمّر أحياءً بحالها!
 
ولأنها سوريا؛ ذات الأبعاد الجغرافية المهمّة، والأطر الاستراتيجية المتجاوزة لمحيطها، والكثافة السكانية والجمالية الطبيعية والطبيعية فقد أُريد لها أن تبدو بعد سبع سنوات من الثورة بهذا الشكل، فتتبلور في شاكلة مأساة لا مثيل لها في القرن الحادي والعشرين، بل وتقارن وأكثر بأبشع الجرائم التي شهدها التاريخ بمراحله المتعاقبة.. قُزّمت سوريا لأنها أرادت أن تحيا على غير ما اعتادته منذ مطلع القرن العشرين فالنهج واحد، والحاكم ذاته مهما تغيّرت الأسماء والملامح، وعُوقب أهلها لأنهم فتحوا أبواب الحرية، واستشرفوا مستقبلهم بأنفسهم، وتطلعوا لتكوينه دون انحراف أو توجيه من سلالة أو كيان له مآربه المرتبطة بدعوات تدميرية للمنطقة بأسرها.
 
نعم، لأنها سوريا، فقد اتخذت منها قوى الثورة المضادة موئلاً للانقضاض على مشاريع الربيع في المنطقة، وضخت أموالاً مهولة على المستويين الداخلي لضمان استمرار المواجهة، والخارجي للتسوية السياسية مع لاعبين دوليين كروسيا وأمريكا وفرنسا وغيرهم ممن تدخلوا بوجه أو بآخر.
 
استخدمتها القوى التضليلية في المنطقة كورقة رابحة من أجل إعادة الكرّة، وتحقيق حياة دائمة لمشاريع الاستبداد ومناهضة حق الإنسان العربي في الوجود من حياة كريمة وحرية وكرامة.. لذا ما نشاهده اليوم من أحداث دموية متواترة إنما هو ضمن مشروع إفساد الربيع العربي وتداخل المصالح الغربية والشرقية مع حلفائهم الإقليميين، وسوريا ضمنياً هي واجهة التنفيذ الأولى لمشروع الإقصاء التام، وإحلال من يديرون المصالح ويحققون الأهداف دون عناء ومشقة، وإلا لماذا التهجير القسري؟ والتبديل الديموغرافي؟ والهجرة المحسوبة مسبقاً طبقاً لسلالات بعينها ذات اعتقادات لا تتجاوز المقاومة والممانعة المزعومة!
 
لأنها سوريا، فقد استخدموها كساحة لتجريب أسلحتهم، ومساحة لتقاسم ثرواتها بينهم البين، وميدان صراع لن ينتهي إلا بعد أمد غير معلوم.. جعلوا منها منطقة متفحمة، ومارسوا فيها أبشع جرائم التاريخ، زعزعوا موازين الكون بقنابلهم الارتجاجية والانشطارية ، وأزالوا الحياة من مناطق بعينها عبر براميلهم التفجيرية، ونزعوا الهواء عن أحياء مكتظة بالسكان فخلّفوا ابادات جماعية لن تتكرر ما بقينا!
 
لأنها سوريا، فقد جعلوا منها عرضاً أولياً للقيامة، ميداناً للحشر، وجهنماً كثواب للحناجر التي صاحت بحقها في الوطن، وللأيدي التي رفعت شعارات الإصلاح، ولمن دافع عن سوريا الأرض والإنسان.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر