يرتبط الربيع بالحيوية والجمال، وبأنه باكورة فصول العام الأربعة. ففي الـ21 من شهر مارس/آذار، كل عام، يدشن الربيع أيامه التسعين، مؤذناً ببداية الانشراح البشري، واكتمال نضارة الطبيعة، وفواح روائح الأزهار العطرة، ونضوج ثمار غالبية الأشجار الموسمية مع تباين الأصناف من بلد إلى آخر.
 
لكننا هنا، لسنا بصدد التغني بربيع الطبيعة، بل بالربيع العربي، الذي قضَّ مضاجع المستبدين في مطلع عام 2011، العام الذي شهد التحول الأبرز على مستوى المنطقة منذ عشرات السنين.
 
بدأ الربيع العربي بـ"تونس"، في ثورة عارمة، فَرَّ على إثرها "زين العابدين بن علي" إلى غير رجعة؛ ثم تلتها "مصر" في أسطورة يناير المشهودة، ليتنازل "حسني مبارك" عن سلطته تحت ضغط شعبي عارم؛ ثم لحقتهما "اليمن" في أعظم عمل ثوري يتغنى به تأريخ اليمن عبر عصوره، ليكلل ذلك بتسليم "صالح" للسلطة بعد توقيعه للمبادرة الخليجية..
 
واستمرت أزهار الربيع في تفتحها، لتشمل "ليبيا" التي حققت منالها بعد مقتل "معمر القذافي"؛ وكذلك "سوريا"، التي قررت الانخراط في الربيع بغية التغيير وتنفس عبير الحرية في ال13 من مارس 2011م.
 
لكن، بعد كل التضحيات والملاحم الأسطورية التي سُطّرت، والبطولات المدونة باعتزاز وشرف، وحالة الثورة التي جددت الدماء في عروق الشعوب، ودفعتهم قدما نحو تفكير يتجاوز واقعهم ومحيطهم، على الأقل إبّان حالة التجمهر، والخطوات الإجرائية التي تلتها من زلزلة أركان أنظمة استبدادية تعاقب حكمها عقوداً من الزمن...، بعد كل ذلك، وبعد مرور سبع سنوات على تلك الانطلاقة الربيعية، من المهم علينا أن نتساءل: ما الذي حققه الربيع العربي؟ وهل أزهرت أوراقه وأينعت ثماره؟
 
الحقيقة المرة تقول: إن الربيع العربي وقع ضحية تجاذبات سياسية حادة، وصراع مصالح دولية تجاوزت شعارات ومطالب الشعوب. وهو ما تجلّى في الخطوات الأولى التي تلت مغادرة كل رئيس على حده- عدا سوريا، التي اتخذت فيما بعد كوسيلة مثلى لإعادة الكرّة من أجل أن تعود المياه إلى مجاريها، فيما عرف بالثورة المضادة، التي نواجه قوتها ونعايش نتائجها وأحداثها الكارثية.
 
حيث تسببت، تلك الثورة المضادة، في مقتل عشرات الآلاف وجرح مئات الآلاف وتشريد الملايين، فضلا عن ظهور قوميات وسلاليات ودعوات مناطقية، وإذكاء حالة الصراع باللعب عبر تفاصيل دقيقة لإشعال المنطقة بالأزمات، وتكبيد شعوبها خسائر فادحة، لأنها فقط طالبت بحقها في ثرواتها وإدارة حياتها المدنية والمعيشية.
 
أضف إلى تلك النتائج الكارثية، تعرية الأرض العربية، واتّباع سياسة الأرض المحروقة؛ إما بتشكيل عصابات ذات توجهات دينية متطرفة؛ وإما بتشكيلات سياسية رثة لها أيدولوجياتها القومية والعرقية لتحقيق مآرب سوداء، تستهدف حق المواطن في الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية.
 
لربما، ومن خلال ما حدث مباشرة عقب حالة الانتصار المرحلية للثورات، أُصيبت قوى إقليمية ودولية بالجنون جرّاء ما بدأت تشهده دول الربيع من حالة تغيير شاملة، ومرحلة تجديد طارئة، فتحت نوافذ استشرافية لمستقبل واعد ليس فيه مكان للمرتهنيين كأدوات تنفيذية لمشاريع يتم تحقيقها على حساب مكاسب الأوطان وحقوق الشعوب..
 
وذلك ما تجلّى سريعاً على أرض الواقع، فانكشفت غُمّة الألثمة الملوّنة، والوجوه المزيفة، والدعوات المُنمّقة، وعُرف من مع الربيع والتغيير الذي يحمله، ومن يقف في وجهه ويعمل على إسقاط أوراقه وتجريده من نضارته وحيويته، محيلاً إياه إلى خريف ذابل، ومحولاً أرضه المعشبة إلى صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها للطبيعة ولا للبشر، وهذا ما يحدث منذ دوران عجلة الثورة المضادة على مدى خمس سنوات مضت.
 
ربيعنا، نحن الشعوب، لم يزهر كله. لكنه لم يخلو من زهرة واحدة؛ تفتحت فأعطتنا من الدلالة والبصيرة ما جبر معاناتنا؛ تلك الدلالة التي أظهرت المتبنين لمشروع الخريف المضاد للربيع العربي؛ من دول كانت تتباهى وتتأنق بإنجازاتها التنموية ذات مؤشرات الصدارة العالمية ومشاريعها الاستثمارية العملاقة وبنيتها الاقتصادية المتكاملة، إلا أنها ضنّت على شعوب أخرى من بني جلدتها، وبذات ثقافتها، أن تحصل على ما ينعشها من ثرواتها، واستخسرت عليها الحصول على شيء من حريتها المصادرة منذ دهور.
 
بل زادت دول الخريف على ذلك، بأن ضخّت أموالاً باهظة لإعادة قيادات من الأنظمة السابقة إلى صدارة المشهد في بلدانهم، وزعزعت أمن واستقرار تلك الدول (الربيعية) تحت مبررات غامضة لا يستسيغها عقل...!
 
وبالنظر إلى المجريات العائقة اليوم، والتطورات الفنتازية الكارثية على المستويين السياسي والاقتصادي، وتماهي أدوات الصراع الإقليمية فيما بينها، وابتكار سيناريوهات جديدة لإطالة أمد الصراع على حساب شعوب المنطقة المغلوب على أمرها؛ إلا أنه- بالرغم من كل ذلك- فإن مؤشرات إتمام الربيع لدورته، ما تزال قائمة، مادامت الشعوب تتذكر أحداثه وتفاصيله كاملة؛ وما دام الثوار يتمسكون بعقيدتهم القائمة على نهجهم الثوري حتى يحققوا ما بذلوا من أجله الغالي والنفيس.
 
مؤمنون، أن الربيع سيزهر حتماً، ولكنه لا يزال بحاجة إلى مزيد من التضحيات التي ستسقي أرضه كي تنبت وتينع أشجاره وتورق من جديد، وتتفتح الأزهار رياحينا وعبيراً وعطراً ينشر شذاه بين العالمين.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر