صنعاء وصاحبة "تنور الحطب"


إفتخار عبده

في وقت الأصيل، ومع ذهاب الشمس إلى  وكرها، لقيتها صدفة، فقد  كانت تحاول أن تُحمِلَ رفيقتها تنور الحطب.
 
لم أتوقع أن أرى مشهداً مثل هذا في صنعاء (العاصمة)، لم أرَ نساء صنعاء يحملن ذلك على رؤوسهن، ولم تعتاد المدينة أو البيوت المدنية حضور تنانير الحطب فيها. وإن ما يميز الحياة الريفية عن الحياة المدنية هو عدم الطبخ على الحطب؛ بل إن هذا هو الفارق الأبرز بينهما.
 
كانت واقفةً على مسافة مني وفي الجهة اليمنى، التفت إليها بدهشة، اقتربت منها، وحينها شعرت أنها تضايقت مني قليلا، وهذا هو طبع العزيزات اللائي جار عليهن الزمن.
 
 نظَرَتْ إليَّ، ثم مباشرة قلبت نظرها إلى من كانت بجوارها.. اقتربت قليلاً وبنوع من الحذر كي لا أجرحها بقدومي.. لقد كانت الأسئلة تثور برأسي.. القلق يصاحبني في ذلك الحين، سلمت عليهنّ وجلستُ إلى جانب التنور، لا أدري ماذا أقول؟ وكيف أبدأ؟ فإذا ما قدمت لهنّ الأسئلة دون شك سأصيبهنّ بالقلق، إذ أن الواقع قد جعلنا أحيانا لا نثق ببعضنا، فكيف لامرأة واجهتها لأول مرة قرب حارتها...!
 
كيف لها أن تجيب على أسئلتي، وما الدافع لها في وجهة نظرها، قلت مباشرةً هروباً من نظراتهما التي تحمل معاني الشك والريب (أقدر أساعدك يا امه)..؟ ردت الكبيرة ويبدو أنها ربة الأسرة: "اسلمي يابنتي الله يحفظش".. عندها أحسست بعض الشيء أن شكها من اقترابي قد بدأ يزول أو كاد.
 
 كانت المرأة واقفةً فجلست ولا تزال على صمتها، فقلت مداعبةً لها بحديثي: "أنا أحب كثيرا الأكل الشعبي، المطبوخ على الحطب.."، كنت أريد منها أن تتحدث عن سر خروجها لأخذ التنور ولمَ هي بالأخص من تقوم بهذا؟ قالت: "ناهي يابنتي، والله غير الدنيا ضبح ماحد يلقى مايأكل، لكن على الله".  قلت لها: "يا امه من فين جبتم هذا؟". نظرت إلى عيني وردت: "من باب اليمن يابنتي.. سرنا نديه فوق الباص وذلحين عندخله للحارة".
 
 كانت المرأة تضرب كفاً بكف لتزيل الأتربة العالقة على يديها وعلى جلبابها الثقيل الذي ترتديه، وقد أخذت الشمس لونه الأسود وأحالته إلى نوع من الاحمرار.
 
الحقيقة كانت المرأة ما تزال على حذر من الحديث إليّ. التفتُ إلى المرأة الأخرى، والتي كانت تجلس إلى يساري فإذا بها تضغط أزرار تلفونها الصغير القديم؛ لاحظت على يديها أثار التعب، شحباً واسمرارا، ربما أنها متعبةٌ هي الأخرى، قلتُ: "يا امه ايش با تفعلوا بهذا؟" ضحكت وقالت: "ما نفعل به؟ نخبز به"، ثم أردفت: "قدك دارية كيف الدنيا، والله ما نقدر نشتري دبة غاز، ما زاد درينا ما نهم؟ نهم الماء أو الحطب أو الدقيق..! ما نفعل؟ دنيا يا بنتي، ونحنا ما نقدر نمد أيدينا لحد، والله عالم بحالنا، ما داري الا هو".
 
نزل كلامها كالصاعقة على مسامعي، قلتُ: "الله ينتقم ممن كان السبب.."، عندها اقتربت مني قليلاً ومالت برأسها إلى القرب من أذني، ووضعت يدها إلى جانب فمها، ثم همست بصوت خافتٍ قائلة: "الله ينتقمهم.. هولا خربوا البلاد والعباد، قد رجعونا للإمامة يابنتي، والله بيوتنا مابهن حاجة..! نعيش على العافية، لكن ما تقولي؟ ولمن؟ لو جيتي تتكلمي..." وأشارت بيدها اليمنى وبحركة سريعة أمام رقبتها، في إشارة متداولة على أن مصير من يتحدث عن ظلمهم هو الذبح والهلاك الحتمي.
 
  قالت المرأة الأخرى: "هيا ماعلينا، هجعونا، قومي نروح". كنت أريد أن أستفسر عن هذه الأسرة، وأعرف جيداً أنها ليست الأسرة الوحيدة التي تعاني في بلدي الحبيب، فقلت لها: "اجلسي شوي، الدنيا حق الله، أنت ايش تقربي لها؟"، أجابتني المرأة الكبيرة: "هذه زوجة ابني، قد قتل في تعز"، قلت بعجب: "ليش؟"، عادت إلى حديثها بالصوت الخافت واقتربت مني أكثر: "قد قلت لش: هولا الحوثة جرجروه معاهم، كان طوال الوقت معاهم مايعود الا نص الليل..، وكان قبل يشتمهم، مدري مالهم غيروه هكذا...!! كنا نهاديه كذية كذية يابني، هولا ما ينفعوناش بشي، وهو ولا يفهم يرد علي ولا كأني امه، يصيح فوقي وفوق أبوه ومرته، وبعدين مش عارفين أي حين ساقوه تعز وقتل هناك، وماعد زدت ابسرته"...!! نزلت دموع المرأة، ثم رفعت يديها تجاه السماء، تدعو عليهم وتقول: "ذلحين خلف لي أربعة جهال، مش عارف كيف أفعل لهم؟ ومن أين ادي لهم؟ جوعونا ي ابنتي واتعبونا الله ينتقم منهم".
 
 حارت كلماتي، لم أدرِ ماذا أقول سوى اللهم آمين.
 
نهضت زوجة ابنها تجاه التنور لحمله، ثم نهضت المرأة بتثاقل وهي تضع يديها على ركبتيها، وتقول: "على الله يابنتي، احنا علينا ندعي والله كريم"، ثم أشارت إلى التنور وقالت: "قد تسلفت من جارتي وقلت اشتريه، عنكون نفعل به..، قالت جارتي إنه اخرج من الغاز".
 
نهضت وسألتها عمن يعولهم في الوقت الحالي بعد وفاة ابنها، فقالت: "جدهم معه عربية.. ساعة يخرج للسوق يحمل بها الدقيق والرز للناس، وساعة مايخرجش، وذلحين قد ريعنا له يجي لهانا يبز هذا.. قال لنا نعمل له اتصال وهو عيجي، الله يعين". غادرت المرأتين حتى اختفيتا عن عيني، ولم يرحل الحزن الذي تركته المرأة الكبيرة وملامح الأخرى.
 
ما الذي يريدونه منا هؤلاء؟ وإلى أي مرحلة يريدون أن يصلوا بالشعب المغلوب؟ وما الوسيلة التي لم يطبقونها علينا؟

لا تحزني أيتها الغالية، سيرحل الهم والوجع عما قريب، وسينقشع البلاء الذي أتوا به إلينا، بإذن الله..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر