فرضت مركزية اليمن في الصراع الإقليمي الحالي، كإحدى جبهاتها النشطة تحوّلاتٍ عديدة على الفرقاء اليمنيين، بحيث غيّرت طبيعة تأثيرها في الصراع الإقليمي وحدودها، وأعادت، وفق ذلك، توزيع ثقلها محلياً، سواء على مستوى أدوارها الوظيفية كسلطة حرب، أو على أدواتها في إدارة الصراع البَيْني، وأشكال التقييد الذي تخضع له.
 
وإذا كانت جماعة الحوثي قد فرضت نفسها طرفاً فاعلاً في معسكر قوى الممانعة المناهضة لإسرائيل وقوة تهدد المصالح الدولية في البحر الأحمر، فإن خصومها المحليين يسعون لاستثمار تحوّلات الموقف الدولي حيالها لتحسين مركزهم السياسي والعسكري.
 
شكّل تغيير المقاربة الدولية حيال جماعة الحوثي تحوّلاً في المعادلة المحلية، سواء من حيث إعادة توصيف جماعة الحوثي قوةً مهدّدة للملاحة، أو من خلال أشكال تقييدها، ما يعني أنه يصبّ في صالح خصومها المحليين، وتحديداً سلطة المجلس الرئاسي. فإلى جانب العمليات العسكرية الأميركية التي تستهدف مواقع لجماعة الحوثي، فإن استمرار تهديداتها الملاحة في البحر الأحمر قد يمنح سلطة المجلس الرئاسي أوراقاً جديدة لتحسين مركزها، بالضغط على القوى الدولية لتأهيل قواتها العسكرية، بحيث تصبح قوة محلية موازية للجماعة، فضلاً عن فرض نفسها طرفاً في المعادلة الدولية لردع الجماعة، إلى جانب تدعيم وجودها العسكري في مضيق باب المندب، قوة حماية محلية.
 
ومن جهة أخرى، تتيح إعادة تصنيف أميركا جماعة الحوثي منظمة إرهابية لسلطة المجلس الرئاسي تفعيل قنوات دبلوماسية متعدّدة تقيدها، من خلال توظيف تهديداتها الملاحة في البحر الأحمر لعزلها دولياً، إلى جانب الاستفادة من تبعات وصمها بالإرهاب لتحجيم قدرتها العسكرية باستئناف معارك ضد سلطة المجلس الرئاسي في المستقبل، فضلاً عن الدفع بأن تفضي العقوبات الاقتصادية على الجماعة مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي في المناطق الخاضعة لها إلى تصعيد ضغط شعبي واجتماعي ضدّها، ومن ثم ترجّح هذه التطورات من كفّة سلطة المجلس الرئاسي خصماً محلياً للجماعة، إلا أن قدرته على استثمارها تقيّده عوامل عديدة.
 
تتضافر أسباب الإعاقة والتقييد في تعيين المجلس الرئاسي سلطة مستقلة، بحيث أدّى ذلك إلى حصر أدوارها ووظائفها، وبالتالي، أعاق قدرتها على تحسين مركزها مقابل جماعة الحوثي، إذ فضلاً عن تركيبة المجلس الرئاسي المؤلفة من فرقاء سياسيين متنافسين، فإن انقسامهم، على مستوى الأجندات والولاءات، يعمّق من أزمة الثقة المتبادلة، ويعيق توحيد سياستهم حيال التحدّيات التي يواجهها اليمن، إلى جانب، وهو الأهم، خضوعهم لقرار حلفائهم الإقليميين.
 
فقد كشفت مضامين هجمات جماعة الحوثي على الملاحة في البحر الأحمر وأبعادها ضعف سلطة المجلس الرئاسي وعجزها عن أن تصبح سلطة مؤثرة في معادلة السيادة اليمنية، ولو اسمياً، وفضلاً عن مصادرة جماعة الحوثي القرار السيادي لصالحها وإن بالقوّة، من خلال تحويل الممرّات والمضائق اليمنية إلى منطلق لهجماتها العسكرية التي تهدّد الملاحة في البحر الأحمر، فإنها فرضت نفسها في الصراع الإقليمي قوةً رئيسةً تتحكّم في الممرّات المائية التي يشرف عليها اليمن، وتوظفه في معاركها الإقليمية.
 
إلى جانب ذلك، استطاعت الجماعة توظيف تحوّلات القوّة لصالحها، وذلك بفرض هيمنةٍ على المجال الجوي خارج سلطتها، وذلك بمنعها أخيراً هبوط بعض الرحلات الأممية والإقليمية في بعض المطارات الخاضعة لسلطة المجلس الرئاسي، ومن ثم أسفرت هذه التطورات عن تحوّلاتٍ في معادلة القوة وأدوار سلطات الحرب، بحيث أصبح المجلس الرئاسي سلطة أمر واقع، تقتصر وظيفتها التنفيذية على إدارة المناطق الخاضعة لها، على عكس جماعة الحوثي التي نقلت مهامّها من وظائف سلطة الأمر الواقع إلى الهيمنة على القرار السيادي اليمني.
 
وإذا كانت التهديدات الحوثية على أمن الملاحة في البحر الأحمر قد أخرجت سلطة المجلس الرئاسي من معادلة السيادة على الممرّات المائية التي يُشرف عليها اليمن، فإن العمليات العسكرية الأميركية ضد الجماعة لم تمكّن المجلس الرئاسي من تحسين مركزها السيادي. فعلى الرغم من أن نطاقات العمليات العسكرية تنحصر في المناطق الخاضعة للجماعة، أي خارج سلطة المجلس الرئاسي عملياً، فإنّ كونها سلطة معترفاً بها دولياً، المفترض بناءً على الأعراف الدبلوماسية، أن تكون طرفاً سياديّاً على اليمن، بيد أن الإدارة الأميركية، بما في ذلك القوى الغربية، تتعاطى مع المجلس الرئاسي بوصفه سلطة أمر واقع لا أكثر، أي وكيلاً آخر، من ضمن الوكلاء، من استبعاده من الموافقة على هجماتها العسكرية على الجماعة، أو على الأقل تنسيقها معه، ومن ثم عزله عن معادلة ردع جماعة الحوثي، ليس كشريك سياسي وعسكري فقط، بل كطرف محلي، مقابل حرص الإدارة الأميركية على تأييد حلفاء المجلس الرئاسي عملياتها العسكرية ضد الجماعة.
 
عسكرياً، يشكّل استهداف الولايات المتحدة مواقع جماعة الحوثي، فرصة سانحة للمجلس الرئاسي لتغيير المعادلة المحلية لصالحه، ومع أن العمليات العسكرية لم تعطّل القدرة العسكرية للجماعة، فإن هذه التطورات تمكّن المجلس الرئاسي من ترتيب وضعه العسكري والسياسي أيضاً، من خلال استغلال خوض خصمه معركة مصيرية ضد أميركا. كذلك إن تركيز الجماعة قوتها الصاروخية ومسيّراتها في تنفيذ هجمات على السفن، يجعل من توسيع الحرب الميدانية ضد سلطة المجلس الرئاسي خارج أولوياتها، أقلّه حالياً، وهو ما يمنحه خياراتٍ لتحسين موقعه، بما في ذلك التهيئة لخوض معركة عسكرية ضد الجماعة تؤدّي إلى استنزافها أو على الأقل تقلّص من حجمها، ومع أن المجلس الرئاسي يراهن على أن تؤدّي الضربات الأميركية، ليس فقط إلى إضعاف الجماعة، بل إلى القضاء عليها، إلى جانب حرصه على أن يتحوّل إلى شريك لأميركا في مواجهة الجماعة، فإن خوض عملية عسكرية ضدها، الآن أو في المستقبل، أكبر من قدرته على إدارتها. فمن جهة، يمثل استمرار استقرار جبهات القتال خياراً آمناً بالنسبة إلى سلطة المجلس الرئاسي، وانقسامه سياسياً وعسكرياً، وفشله في توحيد المؤسسة العسكرية، يجعلها تتبنّى استراتيجية الأمان، وذلك بتجنّب تحريك جبهات القتال ضد الجماعة، عدا الجبهات التي تخضع لديناميكيات مستقلة، إلى جانب حرص قوى المجلس على تثبيت سلطتها في المناطق الخاضعة لها، ومن ثم عدم المقامرة بخوض حربٍ مع الجماعة تُفقدها امتيازاتها.
 
ومن جهة ثانية، يخضع قرار تحريك الجبهات لإرادة حلفائه، بما في ذلك إدارة أزمة البحر الأحمر وتداعياتها. ففي مقابل حرص السعودية على تحييد نفسها عن العمليات العسكرية ضد الجماعة، تسعى القوى الموالية للإمارات لأن تكون شريكاً في معادلة تأمين الملاحة، ومن ثم استثمار الصراع الحالي لتحسين مركزها، حيث يراهن المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات على الانخراط في معادلة تأمين الملاحة في البحر الأحمر، وذلك بمطالبته المجتمع الدولي بضرورة مدّه بالدعم العسكري لتأمين باب المندب، مستفيداً من تركيز ثقله العسكري في جزيرة ميون، تحت إشراف القوات الإماراتية، فيما تحضر القوات التابعة للعميد طارق محمّد عبد الله صالح لاعباً عسكرياً في منطقتي المخا وذُباب، وهما منطقتان استراتيجيتان متماسّتان مع الجماعة، حيث تشرف القيادة الإماراتية على قوات طارق، إلى جانب القوى العسكرية المحلية من القوات التهامية والمجاميع السلفية القتالية التي تنضوي تحت ألوية عسكرية متعدّدة تحت إشراف قيادة التحالف.
 
ومع أن الثقل الإماراتي هو المهيمن في خريطة القوى العسكرية المحلية التي تنتشر في الساحل الغربي، فإن انقسام سلطة المجلس الرئاسي ومخاوف القوى المنضوية فيه من أن تؤدّي العمليات العسكرية الأميركية ضد الجماعة، بما في ذلك معادلة تأمين البحر الأحمر، إلى تنمية مراكز منافسيها، يجعلها تعطّل من قدرة المجلس الرئاسي من استثمار الوضع لصالحه، إلى جانب التزام القوات المرابطة في الساحل الغربي بخيارات حلفائها الاقليميين، فإنها مقيّدة بطبيعة إدارة أميركا معركتها لردع الجماعة، إما بتحريك الجبهات الساحلية المحاذية لها لتطويقها عسكرياً وإما بالاكتفاء باستهداف منصاتها الهجومية، وإن كانت المقاربة الأميركية تتركّز على تقنين عملياتها ضد الجماعة، بحيث لا يؤثر ذلك في خريطة الصراع المحلية، وفي توازنات معسكرات الحرب، مع أن من الصعب التكهن بالخيارات الأميركية مستقبلاً في حال استمرار تهديدات الجماعة على السفن في البحر الأحمر، فإن استثمار الأتباع، من القوى المحلية، لا الشركاء بالطبع، يظل ورقة متاحة ورهناً بإدارتها معركتها ضد جماعة الحوثي.
 
في الأخير، إذا كانت استثمارات المعادلة العسكرية الناجمة عن تهديدات جماعة الحوثي الملاحة في البحر الأحمر قد حمتها إعاقاتٌ في بنية سلطة المجلس الرئاسي، وصراعاتها البينية وأجندات حلفائها الإقليميين، فإن المعادلة السياسية وإن حققت أفضلية المجلس، جرّاء تصنيف جماعة الحوثي في قائمة الإرهاب، من تبعات تجريمها السياسي والاقتصادي واستهداف شبكات تمويلها إلى التداعيات لأزمة الشحن في البحر الأحمر على اليمن، التي قد تُفاقم الوضع الاقتصادي في المناطق الخاضعة للجماعة، خصوصاً مع استمرار التحدّيات الاقتصادية والإنسانية التي تواجهها الجماعة بوصفها سلطة حرب، إلا أن فساد سلطة المجلس الرئاسي، إلى جانب الحكومة المعترف بها دولياً، يجعلها تفشل في توظيف هذه المتغيّرات لصالحها، بسبب هيمنة مصالحها الاقتصادية، كقوى متعدّدة، بأطرافها السلطوية والمتنفذة وبشبكاتها المحلية على أي حسابات سياسية أخرى. فإلى جانب تجاهلها استمرار تردّي الأوضاع الاقتصادية في المناطق الخاضعة لها، فقد استغلّت التوترات الإقليمية الحالية، بما في ذلك أزمة الملاحة في البحر الأحمر، بالمضاربة بسعر العملة الوطنية مقابل الدولار التي وصلت إلى ما يقارب 1600 ريال.
 
ومن جهةٍ أخرى، إن اضطرابات الملاحة في البحر الأحمر، جرّاء هجمات الجماعة، أدّت إلى تمدّد حرب الموانئ إلى تلك الخاضعة لسلطة المجلس الرئاسي، ما يعني فقدانها جزءاً من مواردها، إلى جانب التداعيات الاقتصادية لتعطيل الملاحة في ميناء عدن، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الشحن في الموانئ اليمنية عموماً إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، ما يعني أن الازمة الاقتصادية الخانقة ستطاول مجمل اليمنيين، وإنْ لن تؤثر في سلطات الحرب.
 
 
*نقلاً عن العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر