العنصرية الصهيونية من الداخل


سلمان الحميدي

 فجأة يجتهد قادة الكيان الصهيوني لإضفاء مسحة أخلاقية على جيشهم. اجتهاد ساذج بدأ به نتنياهو ليلة انعقاد محكمة العدل الدولية جلستها التاريخية للاستماع إلى القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد المسماة إسرائيل. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان ركّزا أيضاً في حديثهما عن أخلاق الجيش الذي يرتكب جرائم إبادة في غزة.
 
قبل أن تتطوع جنوب أفريقيا لجر اسرائيل إلى لاهاي، كان قادة الكيان الصهيوني يستعرضون غطرستهم الداعية لمحو الفلسطينيين. ظهرت النصوص التلمودية لشحن الجيش الباطش تذكيراً بالعماليق،  والأخرى التي تصف أبناء غزة بأنهم «حيوانات بشرية» أو أقل مرتبة من الحيوانات. الخطاب الصهيوني يستند على نصوص أسطورة عنصرية، ولدت قبل 7 أكتوبر 2023 بكثير.
 
يوضح المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري جوهر الأسطورة التي قامت عليها الصهيونية، بتفسير الإسرائيليين للنصوص التي تنكر تاريخ الفلسطينيين ووجودهم ذاته، بحسب التصور الصهيوني فقبل آلاف السنوات كان صهيون في أرض الميعاد، فلسطين، رحل فتوقف التاريخ عنها وخلت من السكان الأصليين، وإن حدث وكان هناك سكان أصليون، كما يرى الصهاينة، «فهم قليلو العدد، متخلفون، يفتقرون إلى الفنون والعلوم والمهارات المختلفة، يهملون الثروات الطبيعية الكامنة في الأرض». «وهم عادة مجرد رحالة لا يستقرون في أرض ما، وهم شعب لا تاريخ له، فأعضاؤه جزء لا يتجزأ من الطبيعة كالثعالب والذئاب، ومن ثم لا حقوق لهم، ويمكن إبادتهم إن ثبت أن ضررهم أكثر من نفعهم».
 
ربما هذا يفسر عته إسرائيل في غزة الآن حتى مع جثث الشهداء، نبش المقابر واستخراج الجثامين، ثم تعيد الجثث مقطعة ما يشير إلى سرقة أعضاؤهم، هذه هي صورة العربي عندهم: الانتفاع منه حتى عند إبادته.
 
في التسعينيات، قدم إدوارد سعيد، إسرائيل شاحاك كمفكر «من خيرة المرموقين في الشرق الأوسط المعاصر» استطاع شاحاك الهروب من معسكرات الاعتقال النازية وجاء إلى فلسطين عقب الحرب العالمية الثانية،  وشهد هذا البروفيسور: «ما تنطوي عليه الصهيونية وممارسات  دولة إسرائيل من آلام وحرمان ليس فقط لفلسطينيي الضفة الغربية وغزة، بل للعدو الكبير من غير اليهود (أي الأقلية الفلسطينية) الذين لم يرحلوا أثناء عمليات الطرد في العام 1948، وبقوا حيث هم، ليصبحوا، من ثم، مواطنين إسرائيليين. وقد قاده ذلك إلى البحث والاستقصاء في طبيعة الدولة الإسرائيلية، وفي تاريخها والمقولات السياسية والأيديولوجية التي سرعان ما اكتشف بأنها مجهولة من معظم اليهود غير الاسرائيليين» كما يقول إدوارد سعيد في مقدمة كتاب شاحاك: «الديانة اليهودية وتاريخ اليهود».
 
دخل شاحاك في صدام مع الإسرائيليين، لفضحه الأيديولوجية العنصرية التي تمشي بها إسرائيل، معتبراً أن ما تقوم به لا يعد خطراً على فلسطينيي غزة والضفة الغربية، بل حتى على الأغيار «المواطنون الإسرائيليون غير اليهود»، وعلى اليهود غير الإسرائيليين أيضاً.
 
شاحاك لم يكتف بتشريح العنصرية الصهيونية من الداخل، بل انتقد مواقف السلطة الفلسطينية التي تتعامل مع إسرائيل على أساس التأسيس لسلام، كما انتقد العرب الموهومين بذلك.
 
من تعريف إسرائيل، الدولة وليس المؤلف، لمصطلح اليهودي، يكشف شاحاك بأن أفراد قبيلة من قبائل البيرو إذا اعتنقوا الديانة اليهودية واعتُبروا بالتالي من اليهود، يحق لهم أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين على الفور، وأن يستفيدوا من حوالي 70% من أراضي الضفة الغربية، ومن 92% بالمائة من مساحة إسرائيل!» وقد حدث ذلك بالفعل لأن السلطة الإسرائيلية اعتبرتهم يهوداً، أما الأغيار «فإنهم يُمنعوا من الاستفادة من هذه الأراضي، وينطبق هذا المنع حتى على الإسرائيليين العرب الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي وبلغوا رتبًا عالية».
 
بدأ شاحاك يكتشف أن إسرائيل بسياستها هذه تقوم على العنصرية الصرفة، وهذه العنصرية تستند على أساطير يؤمن بها حتى الملحدين الصهاينة، بن غوريون «المفاخر بتجاهله لوصايا الديانة اليهودية» يعود للتلمود، ليعلل مبادأة إسرائيل في حرب السويس: «إعادة مملكة داوود وسليمان إلى حدودها التوراتية».
 
أسطورة الحدود التوراتية هي الأيديولوجية الفعلية لإسرائيل. يقول شاحاك: «التحليل الدقيق للاستراتيجيات الإسرائيلية الكبرى، والمبادئ الفعلية للسياسة الخارجية، كما يُعبر عنها بالعبرية، هي التي تحدد، أكثر من أي عامل آخر، السياسات الإسرائيلية الفعلية. وأن تجاهل اليهودية كما هي على حقيقتها "الأيديولوجية اليهودية" يجعل هذه السياسات لا يفهمها المراقبون الأجانب، الذين لا يعرفون عادةً أي شيء عن اليهودية».
 
حتى حمائم اليهود، أي الإسرائيليين الذين يتحدثون عن السلام، يؤمنون بهذه الايدلوجية، وإن كانوا يرون تأجيل السيطرة على الحدود التوراتية، حتى تتمكن إسرائيل من بناء قوتها، ثم إقناع الشعوب العربية أو الحكام العرب بالتنازل عن الأرض مقابل «منافع تنعم بها عليهم الدولة اليهودية» بتعبير شاحاك.
 
يستدل شاحاك بخطابات المسؤولين الإسرائيليين وتفسيرات المراجع الحاخامية، وغيرها. «أرييل شارون في أيار/مايو 1993، اقترح رسمياً في مؤتمر لحركة الليكود، ضرورة أن تتبنى إسرائيل مفهوم الحدود التوراتية كسياستها الرسمية» ويصف شاحاك الاعتراضات على تحقيق الحدود عن طريق الحرب «اعتراضات براجماتية صرفة».
 
هناك صيغ متبانية لحدود أرض إسرائيل التوراتية، ومختلفة، الحدود التوراتية المثالية حسب تفسيرات مراجع حاخامية متطرفة، كما أورد شاحاك: «كامل سيناء وجزء من شمالي مصر وحتى ضواحي القاهرة، في الجنوب؛ كامل الأردن وجزء كبير من العربية السعودية، كامل الكويت وجزء من العراق جنوبي الفرات، في الشرق، كامل لبنان وسوريا مع جزء كبير جداً من تركيا، حتى بحيرة فان، في الشمال، وقبرص في الغرب».
 
بحسب ما أورده شاحاك في كتابه: «الديانة اليهودية وتاريخ اليهود» تُنشر في إسرائيل، وغالبا بمعونات مالية من الدولة، أو بأشكال أخرى من الدعم، كمية كبيرة من الأبحاث والمناقشات الثقافية القائمة على أساس هذه الحدود.
الكتاب وثيقة مهمة تثبت أن نوايا ارتكاب جرائم الإبادة، ليست وليدة اللحظة، يصلح أن يُرفق بالأدلة التي يستخدمها الفريق القانوني لجنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، أو الاستفادة منه، وهو مهم أيضاً، لمن أراد أن يطلع على العنصرية الصهيونية من الداخل، بلسان باحث ومنتقد «يهودي مبين»!.
 
اعتذار متأخر
آخر مقال كتبته هنا، كان قبل أكثر من شهرين، عنوانه: سر غزة كما يكشفه درويش..
بعدها لم أتمكن من كتابة شيء، أحداث غزة بلّدتني، لم يستوعب عقلي أن البشر يمكن أن يصلوا إلى هذا المستوى من الوحشية والاجرام، والصمت والعجز. لم أستطع كتابة شيء خلال الفترة السابقة، بما في ذلك هذا الاعتذار.
في مقال "سر غزة كما يكشفه درويش" استندت إلى نص محمود درويش «صمت من أجل غزة» ولأني لم أتمكن من تحديد تاريخ نص درويش فقد خمنت أنه جاء بعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة في فبراير 2008، قبل أن ينبهني أحد الأصدقاء أن النص منشور في «يوميات الحزن العادي» أحد أعمال درويش المنشورة سنة 1973.
ولهذا أعتذر عن خطأ تخميني الذي ورد في المقال، مع التأكيد أن نص درويش يعبر عن غزة في أي مرحلة كانت، 1973، أو 2008، أو 2023ـ 2024.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر