آلام بقعة الضوء


عبد الله شروح

 ثمّة معاناة تنبع من الوجود الضئيل المختلف في محيط شاسع مغاير ومتجانس. وبقدر ما يكون الوجود المختلف متناهياً تكون معاناته، ولكن أيضاً جماله. الجمال إذن، كله، في ذلك الشرخ البسيط، المقتضب، في الجدار المتجانس الكلي. الأنبياء، في بداية انبعاثهم على الأقل، وهم لا يزالون يتحركون وحيدين في بحر من البشر المتماهين في ضلالهم، هم التجسيد الأقصى  للجمال البشري. مثلهم المفكرون الكبار في مجتمعات الغباء، ومثلهم الأبطال المقاومون في محيط من القنوط والعجز والاستسلام.
 
ليست القدس قدس الحمساويين وحدهم، ولا الأقصى أقصاهم وحدهم. هي أقداس تخص مئات ملايين البشر سواهم، المنتمين إلى هذا الميراث الواحد، المسكوبين في مسار تاريخي يفضي حتماً إلى مصير واحد.
 
إسرائيل أيضاً ليست دولة اليهود وحدهم. هي الشوكة المغروزة في قلب عالمنا الإسلامي بيد الغرب كله. تُصفع إسرائيل فيهب الغرب كله لنجدتها والاقتصاص لكرامتها. أما نحن، العرب والمسلمين، فالحال آخر. يتجاوز الشهداء الغزاويون اليوم الستة آلاف وخمسمئة شهيد، أحياء واسعة سويت بالأرض، تهجير لمئات الآلاف، وما زلنا متعثرين في بيانات إدانة تحرص على أن تحتوي إدانة للفعل البطولي للقسام في السابع من أكتوبر.
 
قرأنا كثيراً في تلك الكتب والمرويات، التي تراكمت في عقود طويلة من الرثاء الذاتي، أن زمناً أتى وبلغ فيه العرب والمسلمون من الذل والعجز والهوان أن الغازي المحتل كان يأمر صفاً كاملاً من الأجداد بأن ينتظروا في أماكنهم إلى أن يذهب فيأتي بسيفه لقتلهم، فيطيعون. والحق أن المرء الذي يعيش فترة تاريخية رديئة مثل فترتنا هذه لن يمكنه استبعاد حقيقية هذه المرويات.
 
يقف المرء اليوم أمام التلفاز وفي حلقه طعم الرماد، يرى التدمير اليومي الحاصل في قطاع غزة، هذه الجريمة المهولة التي ينجزها الاحتلال بشكل يومي وبرعاية كاملة من الولايات المتحدة وكامل الغرب، يرى كل هذا ويتمنى لو يسمع موقفاً عربياً وإسلامياً واحداً حقيقياً مشرّفاً، لكن لا شيء سوى الخزي والعار والهوان.
 
ثم بين كل هذا الظلام يلتمع، بين الحين والآخر، أبو عبيدة أو أحد أبطال حماس، تُطلق رشقة صاروخية قسّامية باتجاه العدو، يُنجز أبطال القسام تسللاً ويحصدون  أهدافاً، فيترمم بذلك بعض خراب الوجدان. إنهم يعانون كثيراً، يعانون كما لا يعاني أحد، يذرفون أرواحهم وأهاليهم روحاً روحاً، وبوسع المرء أن يدرك حجم الغصة التي يكابدونها وهم يعانون كل هذا الخذلان ممن يُفترض أنهم إخوتهم. هذا التجسيد المؤثر للاختلاف الإيجابي في محيط قاتم يستلزم دوماً ضريبة هائلة، ضريبة قوامها الألم المضاعف، ضريبة رغم مأساويتها فإنها هي فقط وقود الاعتزاز التاريخي، وهي بذار العزة والكرامة في كامل المحيط المستسلم البائس.
 
 قاحلة ومظلمة هي الجغرافيا العربية الإسلامية اليوم، وفقط غزة تشعّ، غزّة، بقعة الضوء الوحيدة في ظلامنا الشامل.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر