‫ المُؤرَّخون بالكوارث


سلمان الحميدي

 سنة 1982، وقع زلزال ذمار، قُتل مئات الأشخاص وأصيب المئات، هُدمت المنازل والمباني. كانت الكارثة علامة فارقة عند اليمنيين، ومن المشهور أنها صارت لحظة زمنية يؤرخ بها الكثير من الناس، الكثير من المواقف والأحداث، المواليد والوفيات، وغيرها.
 
استمر ذلك لسنوات، وربما ما يزال الذين عايشوا تلك الفترة يقولون: قبل الزلزال بكذا، أو بعد الزلزال بكذا، وربما أنجبت امرأة ولداً فأرخه والده على صفحة من المصحف: ولد فلان، في غرة ربيع الأولى، لخمس سنوات خلت من الزلزال، عند الساعة الرابعة فجراً، من السنة الميلادية 1987، جعله الله قرة عيناً لوالديه وأنبته نباتاً حسناً وجعله ذخراً للإسلام والمسلمين.
 
لم أقرأ مواقف تلخص أحوال الناس في تلك الحقبة، ولا مقطوعات وصفية تنقل ملامحهم الممزوجة بهول الكارثة وتعب الاكتداح، لترتبط الذاكرة بمتانة بذلك الزمن. وبما أن الزلزال يحدث فجأة، ويأخذ ضحاياه فجأة، من السهل تمييز سنته من السنوات الأخرى، وبالتالي بدء التعامل مع الزمن من خلال الكارثة.
 
توجد هناك كارثة أخرى، تحدث عنها محمد بن علي الأكوع، وهي أكثر درامية وقسوة من زلزال ذمار، وقد استخدمها اليمنيون ليؤرخوا بها، حدثت عقب الحرب العالمية الأولى، وكان ميدانها الأول محافظة ذمار أيضاً، وعُرفت باسم "أيام الفناء".
 
في كتاب «صفحة من تاريخ اليمن الاجتماعي وقصة حياتي» الجزء الثالث، لمحمد بن علي الأكوع، ذكر فيه الفناء الذي استمر لثمانية أيام، حتى أن أحدهم «قام بعملية إحصاء جنائز الموتى على باب بيته» «وقد بلغ الوفيات في اليوم ثلاثمائة وخمسين جنازة، ولا أدري هل كان يقف على بابه للإحصاء بعد الظهر وبعد المغرب أم لا».
 
ومن المشاهد المرعبة التي يرويها الأكوع: «أذكر أن الناس كانوا يتسابقون على النعش والسابق السابق يحرز ذلك وربما يتهازرونه ويتضاربون عليه في المقبرة وربما يخبئونه في الدهاليز فيما إذا مات منهم ميت استعدادًا لما يحدث، وربما يوضع في النعش شخصان بينهما أطفال، ولا ترى من يحمل الجنازة إلا أربعة أو خمسة أشخاص» «وترى الناس كقرية النمل دائبين ذهاباً وإيابا ليل نهار ما بين المقبرة والبيوت، وهم يهذلون جرياً على الأقدام مشدوهين مبهوتين ينتظرون، أما الأسواق فهي خالية إلا ممن يبيع الكفن والحنوط».
 
هذا ما كان في ذمار، أما في بعض المناطق فكان الفناء أقل انتشاراً، وفي صنعاء تحديداً يقول والد الأكوع أنه لم يسمع غير السعال والعطاس والزكام، وهذا غالب ما شكاه الناس هنالك «وكان المقيلون عند والدي يعزون سبب انتشار هذا الفناء هو تفشي الجراثيم التي خلفتها الحرب العظمى».
 
كان والد الأكوع قد ذهب لصنعاء، طمعاً بكرم الإمام يحيى في ذلك الوقت، لكن الإمام كان لئيماً حتى مع أصدقائه، ومن ظريف المفارقات التي حكى عنها الأكوع «ومن عجب العجاب الغريبة أن الإمامة هبطت لأول مرة بمدينة صعدة، سنة 284 هـ ـ 897مـ،  باسم "الهادي يحيى بن الحسين وولده الناصر أحمد، وانتهت بصنعاء ومن اليمن بكله وإلى غير رجعة بالمتوكل يحيى بن محمد حميد الدين، وولده الناصر أحمد 1323هـ 1962م، فأولهم يحيى وأحمد، وآخرهم يحيى وأحمد».
 
الآن بم نؤرخ؟
 
نسخ زلزال ذمار أيام الفناء، وبدون أدنى شك، فإن مواليد قبل الزلزال بقليل أو بعده، هم الفئة الأكثر قتلاً في زمن جماعة الحوثي، وإذا كانت عظمة الكارثة تستحق أن تكون لحظة زمنية فارقة يُؤرَخ بها، فلن يجد اليمنيون كارثة عظمى مثل الحوثيين، غير أن المشكلة تكمن في الطول الزمني لانتفاشة الجماعة، فلا يمكن أن نحدد انتفاشة الحوثي بسنة أو سنتين مقارنة بزلزال ذمار الذي حدث فجأة بيوم واحد أو أيام الفناء الثمان.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر