ما زلت أكرهه إلى الآن، كراهية يؤلمني فيها يقيني من حبّه لي، الحب الّذي عبّر عنه لاحقاً، بالفعل وليس بالكلام، في مواقف عديدة، وظلّ مع ذلك عاجزاً عن انتزاع كراهيتي هذه الّتي لا يدري عنها شيئاً، والّتي جذّرها فيّ طوال سنوات طفولتي بفعله المشين المتكرر والمتمثل بإسقاطي من قائمة "العوّادة" خاصّته في كلّ مرّة أتى فيها إلى بيتنا لمعاودة جدتيّ وأمّي.
 
كان يكتفي بممازحتي بجملة أو اثنتين، قارصاً خدّي مرّة وعابثاً بشعري أخرى، لكن دون أن ينفحني، ولو مرّة، "العوّادة" الّتي أتطلّع إليها ويتوقّف عليها، وعلى مثيلاتها من سواه، نصف فرحتي بالعيد. وبالطّبع فإنّ بوسعي الآن أن أضع لقريبي هذا ألف مبرر، لكنّ الطفل الّذي كنته ظلّ عاجزاً عن حمل الأمر سوى على سبيل إنكار أهليّته الاحترام، وأنّه بخل واع يستهدف فرحته وعيده!
 
"العَسب"، كما يُطلق عليه في جغرافيا واسعة من بلادنا، هو "العيديّة"، في مناطق أخرى، و"العُوّادة" كما نسمّيها نحن في "خُبان" ومناطق أخرى، يا له من تفصيل رائع وجذري في أعياد طفولتي! تفصيل يبلغ من الجوهريّة أن لم يكن بمقدور أعلى السلطات المعترف بها من ذلك الطفل، سلطة الأب، أن تمسّه بأي تحجيم أو محو، فلكم أهدر أبي من دقائق في ليالي الأعياد تلك محاولاً إقناعي بأنّ العوّادة حق حصري "للنسوان"، وأنّ عليّ تبعاً لذلك، أنا الرّجل، البطل، أن أرفضها من أيٍّ من ضيوف الغد، ويختتم أطروحته بأن يمنحني مبلغاً مالياً لا يبقي لي معه أيّ عذر.
 
 لكنّ إيماني بالعوّادة، بأنّها أحد حقوقي الأصليّة من كلّ ضيف سيأتي، كان أكبر من أن تخلخله أيّ سلطة أرضيّة، وحتّى لو كانت رجولتي وبطولتي مرتبطتان حقاً برفضي العوّادة، كما يدّعي أبي، فلا بأس بأن تذهبا إلى الجحيم! وظلّ أبي يصطدم كلّ صبيحة عيد بتجسيداتٍ جسورةٍ وفاقعةٍ لإيماني المتعصّب هذا بالعوّادة، والحمد لله أنّه بقي يجابه خفتي تلك بابتسام متسامح.
 
 لم يكن الأمر متعلّقاً بالقيمة الطبيعية المباشرة للمال، بل يتعدّى إلى كونه مقياساً لمدى تقدير الآخرين لي. فمنذ صبيحة العيد إلى انقضاء يومه الثالث كنّا ننخرط، نحن جميع أطفال العائلة والجيران، في تسابق محموم أيّنا يحصد أكبر مبلغ مالي من عوّادات الأقارب. ولم يمكنني أن أحيل عجزي الدّائم عن بلوغ أيّ من المراتب الثلاث الأولى في ذلك السباق سوى إلى قريبي ذاك، بإسقاطه الدّائم لي من قائمته للعوّادة، الأمر الّذي جعله يستحق كراهيتي هذه الّتي ما زلت أحملها له رغم أنّ منطق النّضج قد أخبرني لاحقاً كم هو ساذج هذا السبب، ورغم أنّ الرّجل نفسه لم يكف يبرهن لي عن محبّة صادقة، إذ يبدو أن لا سبيل لاجتثاث حب أو كراهية تجذرا في سنوات الطفولة.
 
كأيّ طفل، لم أكن معنيّاً بأيّ من التبريرات العقديّة والعقلانيّة للعيد. لم أكن أصوم رمضان لأفهم مغزى عيد الفطر، ولا أعي فريضة الحج لأفهم عيد الأضحى، والواقع أنّ الفرحة تخنق نفسها كلّما غدت عقلانيّة ومبرّرة.
 
ظلّ العيد بالنسبة للطفل الّذي كنته هو تلك الفرحة الجنونية، الكافية ليبيت ليلته مسهّداً، ينتظر، بقلب واجف، أولى تباشير الفجر، تلك الفرحة المتدفقة من ينبوعين هائلين، الأوّل، بات ملك يده: البدلة الجديدة المعلّقة في الغرفة، والّتي تكاد تبلى لفرط ما جرّبها طوال الأيّام واللّيالي المسرفة الطول السابقة، فيما الثّاني لا يزال وعداً غيبياً، عطاءً مُنتَظَراً، مضموناً بالتأكيد، لكن مجهول الكميّة: "العُوّادة".
 
أسترجع الآن هذه التفاصيل لأعياد طفولتي وأشعر بالهول وأنا أفكّر بالحالة المعيشية السيئة الّتي راكمتها على كاهل شعبنا ثمان سنوات من الحرب: كم بقي لدينا من الأُسَر التي بمقدورها شراء كسوة العيد لأطفالها؟ وكم من الرجال لا يزال بوسعهم توفير "عوّادة" محارمهم وأطفالهن؟! وينتابني حزن خانق مع السؤال الأكثر سطوة: كم من الأطفال سيكرهوننا بسبب عَوَزنا هذا المتراكم الّذي لم نعد نملك حياله شيئاً، والّذي لن يفهموه بأيّ حال؟!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر